بات مؤكداً ظهور موجة من أغاني الرثاء رثاء الشهيد رفيق الحريري لم تشهدها الساحة الفنية العربية من قبل وقد لا تشهد لها مثيلاً من بعد، صحيح أن شهداء وطنيين قضوا وزعماء قوميين رحلوا، إلا أن شهيد اليوم يرحل في أوج مجد الصورة التلفزيونية التي تربح في كلّ منافسة أو تحدّ يُدخلها فيهما الشعر الغنائي والموسيقى، لذلك نجد الأغاني بعدما تبذل جهدها لوصف الانطباعات والمشاعر تركن إلى سطوة الصورة مستسلمة لها معترفة بأنها مهما حاولت لن تتفوّق على الصورة، هذا ما أقرّ به راغب علامة حين اكتفى بإلقاء بيتين شعريين استتبعهما بأداء مقطع من النشيد الوطني اللبناني بإيقاع الحداد، محاولاً تجسيد معنى تنكيس العلم حزناً. عرف علامة أنه مهما قال لن يعبّر عن هول الفاجعة وعن فداحة الخسائر المعنوية والوطنية والإنسانية، وقد يكون آثر التريث في تقديم أغنية لا يضمن أن تكون ناجحة جداً كأغنية زميله عاصي الحلاني أداءً ولحناً"بيروت عم تبكي"التي سبق فيها الجميع بتقديم عمل سريع نجا من محاذير الأعمال الانفعالية الفورية، وحقّق الشروط الفنية، لكن هذه الشروط الفنية لم تتوافر في الكثير من الأعمال الغنائية التي قدّمت منذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري الى اليوم، إذ وجد بعض المتطفلين في المناسبة فرصة لتقديم أنفسهم للجمهور مراهنين على ساعات البثّ في المؤسسات الاعلامية التي تواصل حدادها وتحتاج الى مواد بثّ ضمن هذا السياق. شجّع هذا على سطوع اسم ميكايلا المغنية الجديدة التي أدت أغنية جميلة في أيام الحداد الأولى. قد يكون العمل الأنضج والأجمل حتى الآن هو"ما خلصت الحكاية"التي كتب كلماتها نزار فرنسيس وأداها عدد من المطربين والمغنين اللبنانيين، بدا العمل كاستعادة عصرية للأوبريت الغائب عربياً منذ زمن، والذي لا يندرج ضمن المألوف الغنائي اللبناني، بعكس ما هو مصرياً بعدما رسّخه الموسيقار محمد عبدالوهاب مع أوبريت"وطني الأكبر"، وهو بقي تقليداً وطنياً، اذ يحرص المصريون على تقديم أوبريت سنوية في المناسبات الوطنية، نذكر هنا الأوبريت الوحيدة التي شغلت العالم العربي وعرفت انتشاراً مهماً هي"أوبريت الحلم العربي"التي جمعت عدداً كبيراً من المطربين العرب فوق مسرح واحد، وفي مصر أيضاً سجّل العراقي كاظم الساهر"أوبريت بغداد لا تتألمي"أثناء غزو بغداد. أما الملحن الياس الرحباني فقدّم لحناً جميلاً تعمّد اعطاءه لوناً خاصاً لإيصال رسالة مفادها أن الشهيد كان رمزاً عالمياً . يشعر كثيرون من أهل الغناء اليوم بواجب ما تجاه الشهيد، شعور ناجم أحياناً عن وفاء وصدق وحبّ له وحزن على غيابه، لكنه لا يخلو في أحيان أخرى من حبّ للظهور ومغالاة وركوب موجة، من حقّ كل انسان وفنان إيصال رسالة والتعبير عن شعور، لكن الخوف يتزايد مع توالي الأعمال التي تودي بمعنى الرسالة وتقحم ابتذالاً تعرفه كلّ موجة فنية مهما كانت دوافعها نبيلة، علماً أنّ دقائق الصمت بدت منذ رحيل الشهيد أصدق مما قيل وأكثره تعبيراً.