من كان استمع الى التجربة الفريدة التي رسختها اسطوانة «وجوه» التي وضع موسيقاها وغنى فيها المطرب البحريني خالد الشيخ اعتماداً على شعر ابن وطنه قاسم حداد، كان قد توقف ملياً عند صوت من نوع آخر، صوت يفيض روحية في الاداء مثلما هو من خامة بات نادراً التعرف إليها في المشهد الغنائي العربي المعاصر، فالمطربة هدى عبدالله الحاضرة في «مهرجان الموسيقى العربية» بالقاهرة كعضو في لجنة تحكيم مسابقة المهرجان هذا العام والمخصصة للغناء، هي صوت مختلف تشكل في حاضنة اكاديمية (انهت دراستها الموسيقى والغناء في القاهرة آخر ثمانينات القرن الماضي)، وبرز في اجواء موسيقية منفتحة على وعي فكري وفني متقدم عبر العمل في فرقة «أجراس»، والتزمت صاحبته شكل الغناء الراقي عبر غناء القصائد والانفتاح ما امكن على «غناء عاطفي» مرهف ورصين كما الحال في تجربتها الأخرى مع خالد الشيخ ضمن اسطوانته «مستحيل». لكن هذا «الالتزام» الذي بدا كأنه اطار ثقيل حد من تجربة صاحبة شريط «(غناوي الشوق - 1990) تعتبره عبدالله منحها نوعاً من التميز، جعلها تختار بإمعان نصوص اغنياتها، وتذهب نحو النغم الذي «يرقى بذوق الإنسان ومشاعره»، وان الفجوة التي باتت واضحة بين اغنياتها والمتلقي العادي، تراها من مسؤولية مؤسسات الإنتاج الغنائي والعاملين في مجالات دعم العمل الفني، من دون ان تعدم امكان المزاوجة بين «جدية» الشكل الموسيقي وقبول الاغنية «المختلفة» شعبياً عبر توسيع دائرة الجانب العاطفي واخراجه من مدى التعبير عن علاقة المرأة بالرجل الى مستويات أوسع، كالغناء للصداقة، للوطن، ولكن من دون خطاب مباشر فج، ومن دون «نخبوية» غالباً ما وصمت بها تجارب «الغناء المختلف» الكثيرة عربياً. وهدى عبد الله تعتبر الكلمة عاملاً حاسماً في تحديد مصير الأغنية ثم يأتي بعدها الصوت المؤدي فاللحن الموسيقي، متوقفة عن ميلها للشعر العربي في تجاربه المعاصر. فهي غنت من نصوص محمود درويش، قاسم حداد، علي الشرقاوي وغيرهم. وتعتبر اختيارها هذا اساساً في طبع تجربتها الغنائية بملامح تنسجم مع شخصيتها حتى وان جعلتها في دائرة «الموقف السلبي» من قبل مؤسسات الإنتاج الغنائي، منوهة انها حين اختارت تقديم اعمال خارج التداول «الشعبي» فإنها لم تقصد ان تكون غير عابئة بالمتلقي العادي، بل هي توضح «انني قدمت اعمالاً كي تنال رضا الناس وتقديرهم، وهو ما أتلمسه عقب كل حفل، واذا كانت تلك الاعمال لم تصل الى المتلقي العربي فقد يكون وراء ذلك تقصير المؤسسات الفنية البحرينية ووسائل الإعلام ايضاً». ان اي مراجعة نقدية لأداء المطربة هدى عبدالله قصيدةَ محمود درويش «عندما يسقط القمر» بحسب لحن اليمني جابر علي تمنح كلامها عن «التقصير» في وصول الاغنية الى مديات التلقي الواسعة التي تستحق، صدقية واضحة لجهة ان تلك القصيدة المغناة تنسج قالباً غنائياً كلاسيكياً وفق حساسية معاصرة، عبر صاحب النص مرة وعبر اداء المطربة الذي جاء مرهفاً وعميقاً مرة اخرى. ومثل هذا المعنى تكرر في اداء «غزة» بحسب نص الشاعر علي الشرقاوي ولحن زوجها الموسيقار خليفة زيمان الذي خبر قدرات هدى عبدالله فنياً وإنسانياً، وهنا تفوق اداؤها القائم على استحضار جماليات الصوت على صور متداولة وشائعة تضمنها النص الشعري، وساعدها في ذلك لحن زيمان الذي نأى عن فخ الحماسة والزعيق الذي لطالما تنصبه «الأغنيات والقصائد الوطنية»، للمتلقين وهم يحضرون حفلات كالتي قدمت فيها الاغنية وعنت بصورة «القدس عاصمة للثقافة العربية». صاحبة شريط «تقصيت الخبر - 1995» التي بدت منفتحة على فضاء اوسع من اللون الخليجي في الغناء، لم تهمل التعبير الراقي عن البيئة المحلية البحرينية، فمن يسمع اغنيتها «ليل المحرّق» التي صاغ كلامها الشاعر علي عبدالله خليفة ووضع لحنها رفيق حياتها خليفة زيمان، فإنه يصل الى عمق حكايات «المحرّق» المنطقة الشعبية المعروفة عبر تصوير شعري مرهف ولحن لا يستعيد بملل الإيقاع التقليدي للأغنية الخليجية وإن كان قاربه، ودائماً بصوت عاشقة يبوح عن المكان والاهل والأشواق المكتومة. والمطربة هدى عبدالله وان شاب حديثها عن تجربتها الغنائية شيء من الإحباط مع رغبتها الشديدة في التواصل مع أجواء الأغنية المعاصرة، فهي تقول «انا افهم عملية الإنتاج وما تحتاجه من نفس جديد، وانا انظر الى الكثير من التجارب الجديدة في الغناء باحترام وتقدير عاليين، لكنني اشكو قلة الفرص، ضيق المكان البحريني، والفهم الضيق لمؤسسات الإنتاج». لكنها لا تتردد في تقديم اغنيات جميلة تنطلق من البيئة المحلية كما في «بحرينية» الأغنية التي كتبها بدارجة اقرب الى العربية الفصيحة الشاعر علي الشرقاوي ولحن خليفة زيمان، وهي اغنية تتوافر بانسجام على مختلف عناصر النجاح في الاغنية: الكلام الذي يستعيد صورة المكان البحريني وانسانه تاريخاً وراهناً واللحن الإيقاعي الرشيق والمعاصر، والصوت الصادح املاً وثقة والذي تقول صاحبته «انا لا اتردد عن مقاربة الغناء الجديد ولكن مع الحفاظ على مستوى معين من الرصانة، المستوى الذي يبدو ان مؤسسات الإنتاج ظلت اسيرة الخوف منه». وصاحبة اغنية رقيقة مثل «عصفور» التي غنتها عام 1990 يوم كانت ضمن فرقة «اجراس» كانت قدمت دروساً في الرقة الغنائية التي تصور برهافة حال المرأة العاشقة، كما في تجاربها اعتماداً على الحان المطرب خالد الشيخ الذي شاركها «مكان آمن للحب» وغيرها من اشواق صاغها شعراً ابن وطنهما قاسم حداد، ثم اغنية «مستحيل» الايقاعية الرشيقة التي تردد فيها «انت العذاب الجميل... هجرك من المستحيل» ولاحقاً «لا خط... لا هاتف» حين شدت فيهما الى جانب الشيخ في ثنائي خسرته الاغنية العربية المعاصرة وتحديداً العاطفية الرقيقة حين لم تتكرر اطلالته لاحقاً. وعن تلك التجربة المشتركة تتحدث هدى عبدالله بإعجاب ممتزج باحترام لصاحب تلك الالحان، مشيرة الى يقينها بالمستوى الفني العالي لخالد الشيخ وانه لم يكن يضع لها الا الالحان التي تناسب شخصيتها وفكرتها المسؤولة عن الأغنية كوسيلة تعبير مرهفة، وإن كانت عاطفية بروحية معاصرة، فهي ترى انها لم تخسر شحنة العاطفة في صوتها وغنائها حتى وان قاربت الغناء الوطني بأبعاده الفكرية والإنسانية، لافتة الى ما قدمته في «ليل المحرّق» او اوبريت «حكاية من قرطاج» الذي صاغ الحانه التونسي محمد القرفي واوبريت «زمن الحجارة» الذي قدمت فيها قصيدة محمود درويش «غريبان» بحسب لحن تعبيري جميل وضعه خليفة زيمان. وهي اذ تشير الى تلك التجارب بمحبة لكنها لا تخفي احساساً بالأسى حين تصف تجربة حزينة هي المشاركة في «مهرجان جرش» عام 2007 اذ اعتبرتها نموذجاً على تقصير مزدوج للإعلام والمؤسسات الفنية حين لم تحفل مشاركة البحرين الغنائية بأي حضور جماهيري، لكن نبرة كهذه في حديثها تختفي لمصلحة اخرى متفائلة حين تشير الى تجربتها الغنائية الاحدث بمصاحبة الفنان الشاب خالد فؤاد ضمن أحداث الفيلم البحريني «حنين» للمخرج حسين الحليبي والذي وضع موسيقاه خليفة زيمان. والى تجربتها الفنية التربوية في البحرين حيث تعمل في برنامج لتعميق التربية الموسيقية والفنية بعامة في مدارس بلادها، وتعتبره جانباً بارزاً لا يقل اهمية عن ميدان عملها في الغناء، فإن المطربة و «التربوية» هدى عبدالله باتت تمثل روحاً جديدة في سياق عمل المحفل الموسيقي الاكاديمي العربي الاول، فهي تمثل اليوم وطنها البحرين في «المجمع العربي للموسيقى» التابع لجامعة الدول العربية، وتأمل من رئاستها «اللجنة التربوية» فيه ان تثير قضايا المنهاج التربوي الموسيقي العربي وفق روحية جديدة تنفض الغبار عن هذا الملف الذي لم يجد عناية يستحقها، فهي تشدد على ان «اصلاح حال الموسيقى العربية يبدأ اليوم من التربية فالتربية ثم التربية».