لنأخذ مشكلة الحرية، مثالاً. انها لا تكمن بالدرجة الاولى مع الطاغية او الكهنة، بقدر ما تكمن في بنية المفهوم وفي سياسة الفكرة، اي في التعامل مع الحرية بصورة فردوسية او قدسية تصدر عن مخيلة استبدادية او ارهابية. ولكن الحرية ليست هواماً ليبرالياً كما يتخيلها السذج من الحداثيين الحالمين بفراديس ارضية او بديموقراطيات مثالية. هذه اكبر عملية خداع مارسها وما يزال المثقفون العرب والغربيون في ما يخص تحديث المجتمعات العربية وتطورها. ذلك ان الذي يمارس حريته هو الذي يجترح قدرته ويمارس سلطته وفاعليته، بما يُنتجه من الحقائق او يخلقه من الوقائع في حقل عمله او في بيئته وعالمه. ومن لا سلطة له لا حرية له. ولذا فالحرية عمل نقدي متواصل على الذات، يتغير به المرء عما هو عليه، بالكد والجهد، او المراس والخبرة، او السبق والتجاوز او الصرف والتحوّل، مما يجعل ارادة الحرية مشروعاً هو دوماً قيد التحقق بقدر ما يشكل صيرورة متواصلة من البناء واعادة البناء. وفي مثال آخر، هذه هي مشكلة الديموقراطية. انها لا تكمن فقط مع الحكومات الديكتاتورية وانما في عجز الديموقراطية التمثيلية، ديموقراطية الناخب والنائب، او ديمقراطية المثقف والكاتب، عن التلاؤم مع التحولات التي طرأت على المشهد العالمي، حيث ولادة المواطن الارضي والمجتمع الاعلامي والشراكة الكوكبية او الحاكمية العالمية تفتح آفاقاً رحبة او خصبة، على نحوٍ يتجاوز الاطر القديمة والحديثة للأمة والطائفة او للدولة والمدينة، كما تتجاوز الاساليب والوسائل القديمة او السائدة في ممارسة السلطة والادارة. اذ ان فضائية واحدة تملك من التأثير اكثر من بعض الدول والحكومات. من هنا حاجة الديمقراطية، الى اعادة الصياغة والابتكار، لاستثمار الامكانيات التي تفتتح مع مجتمع الصورة والمعلومة والشبكة، في مجالات التعبير والتمثيل او الرصد والرقابة أو التواصل والتضامن. مما يعني ان إرادة التعبير عن حرية الرأي وصياغة المطالب والمشاركة في صناعة القرارات، لا تصنعها صندوقة الاقتراع وحدها، وإنما تُمارَس وتُبنى او تُصنع على مستويات متعددة وفي مجالات مختلفة، بخاصة في المجال الميديائي الذي يتحرك الفضاء العمومي ويتشكل تحت ضوئه وبين صوره وشبكاته ومفاعيله. وهذا ما أسهمت فيه العولمة الليبيرالية التي أطلقت ديناميكيات مجتمعية جديدة، كما تشهد التجربة اللبنانية وغير تجربة. وهكذا ليست الديمقراطية مفتاحاً سحرياً للحلول، ولا مجرد رفع شعار، بعد كل هذا الفشل في ترجمته. وانما فكرة يجري بناؤها بقدر ما هي تجربة ننخرط فيها. انها صيرورة مفهومها بقدر ما هي أداة أو صيغة نتحوّل بها عما نحن عليه لكي نسهم في تحويل أشكال وأنماط العلاقات السياسية والسلطوية، بحيث تتراجع البُنى المركزية البيروقراطية القائمة على التراتب والتعتيم لمصلحة علاقات متوازية تشتغل بمنطق الشفافية. وفي مثال ثالث فان الوجه الآخر للمأزق الديموقراطي، هو مأزق الدول والحكومات في ضوء ما طرأ على المجتمعات المعاصرة من تحولات تقنية واقتصادية وحضارية وثقافية. أمست"الدولة أصغر من أن تحل المشكلات الكبيرة وأكبر من أن تحل المشكلات الصغيرة"، كما يقول دانيال بيل، الأمر الذي يكشف عجز الاطر والانظمة والمؤسسات السائدة في ادارة الشؤون وتدبر المشكلات، سواء تعلق الامر بالحكومات والبرلمانات او بالاحزاب والنقابات. من هنا نشأت مفاهيم وهيئات وقوى وآليات جديدة تتخطى الاساليب القديمة في العمل، إذ تقوم على اعادة صياغة العلاقات بين الشأنين العام والخاص، بقدر ما تهتم بالتنسيق بين مهمات وأنشطة تعود الى مجالات أربعة أو خمسة: الادارات الرسمية، والمشروعات الاقتصادية، والتجمعات الاهلية، ومراكز البحوث والدراسات، والمنظمات الاقليمية او الدولية. بذلك تجمع اعمال الاصلاح والتحديث، او التنمية، على نحو مثمر وبناء، بين الحكومات والشركات، او بين الاسواق والبلديات، او بين رجال الاعمال والجامعات، او بين جماعات المصالح ومؤسسات المجتمع المدني، او بين المؤسسات الوطنية والهيئات الاقليمية والعالمية. هذا ما يندرج اليوم تحت مصطلح الحاكمية والشراكة والاعتماد المتبادل والمواطنية الكوكبية وحقّ التدخّل والمنتديات العالمية والتحالفات الاقتصادية... مثل البنك الدولي، والسوق الاوروبية المشتركة، ومؤسسة الفيفا، والقنوات الفضائية، والبرامج الفنية العالمية ستار أكاديمي- سوبرستار، ومنظمة العمل العربي، والاسكوا، والF.B.I.، والحكومات المتعلقة بقطاع او اقليم او ناحية او مدينة، والتي تطلق عليها اليوم تسميات حاكمية المدينة أو الحكومة الالكترونية او الحكومة المدينية... مثل هذا التحول يؤدي الى تشكيل أنماط وأساليب جديدة في ممارسة السلطة العامة والإدارة الرسمية، يترجم ببناء وحدات مركبة او انظمة متحركة، ينخرط فيها أو يسهم في بنائها اطراف او فاعلون عدة ينتمون الى مهن مختلفة وبلدان متعددة، بقدر ما يستخدمون انماطاً وأساليب مختلفة من المعالجة والمقاربة. الامر الذي يتيح عبر المناقشة والمداولة، تشكيل لغات ومساحات وقواعد او مصالح مشتركة. وهكذا فالدولة هي تماماً كالديمقراطية محتاجة الى اعادة ابتكار، إذ لم يعد بوسعها احتكار المشروعية والهيمنة على المجال العام، في عصر العولمة والحوسبة والحوكمة والشراكة. فما هو غير حكومي اصبح بأهمية ما هو حكومي في ادارة الشأن العمومي، تماماً كما أن ما هو خارجي او عالمي بات بأهمية ما هو محلي او وطني. ولعل هذا هو الافق الذي ينفتح اليوم أمام العمل العربي المشترك، بعيداً عن منطق التهويم الايديولوجي والتشبيح القومي الذي أفضى بالمشاريع والشعارات الى الفشل: فالعمل المشترك المنتج للفاعلية ليس نموذجه حكومات الدول المركزية او الاستبدادية، ولا الحاكمية الالهية، وانما هو أقرب ما يكون الى الطريقة التي تدار بها الشركات العالمية والمنظمات الاقليمية والالعاب الرياضية، حيث تنكسر عقلية الانفراد والاستقواء لمصلحة لغة الشراكة والمداولة، أو تتغلّب قواعد الحوار والمباحثة والتبادل على مبادئ السيادة ومنطق العزلة والصدام، أو تحلّ محل العقائد الجامدة والثوابت المتحجرة الاتفاقات القابلة للتعديل والتطوير. والمثال الرابع يقدم الشواهد على تغيّر وضعية الفرد ودوره. فمع ثورة المعلومات ننتقل من اقتصاد العضلة الى اقتصاد المعرفة بقدر ما يتشكل لاعب جديد، يعتمد على تشغيل قدراته الذهنية واستثمار طاقته الابداعية، من خلال استخدام الادوات الالكترونية والعمل على أنظمة المعلومات وبرامجها. الامر الذي يحول الفرد من مجرد متلق سلبي او منفذ للاوامر التي تصدر من فوق الى عنصر فعال ومسؤول او خلاق ومشارك في صناعة حياته، بقدر ما يجعل كل حقل او قطاع قادراً على صوغ اختياراته وابتكار وسائله وتركيب الحلول لمشكلاته. هذا التحول في وضعية الفرد من موقع الهامشية والقصور الى موقع الفاعلية والشراكة والمسؤولية، يكسر ثنائية النخبة والجمهور، بقدر ما يتخطى الفصل الحاسم بين المعرفة الاكاديمية النظرية والمعرفة العامية المشتركة. لم تعد المسألة اليوم، مع ظهور عملاء المعلومة وعمّال المعرفة، تتعلق بنظريات جاهزة للتطبيق في مجالات العمل"بل بوجهات نظر او محركات للعمل او قواعد للعب، يجري طرحها ومناقشتها ويعاد صوغها في أتون التجربة، على مستوى الحقول والقطاعات أو على مستوى الدول والبلدان او على مستوى دولي وعالمي. والوجه الآخر للتغيّر في وضعية الفرد هو التغيّر في وضعية المجتمع نفسه. من هنا فإن مصطلح المجتمع المدني فَقَد حيويته ونضارته، ولم يعد يحرك العقل او الخيال بصورة خلاقة، من فرط لوكه واستهلاكه، بل بعد كل هذه التجارب الفاشلة والاخفاقات المتلاحقة، شأنه في ذلك شأن بقية الشعارات المرفوعة منذ عقود في العالم العربي. مما يحمل على اعادة صياغة المفهوم وتلقيحه، بفتحه على ما ينبجس ويحدث من العوالم والقوى والموجات والادوات والافكار. وما يحدث ينقلنا من المجتمع المدني الذي يدار بثنائية الخاصة والعامة او النخبة والجماهير، كما تتخيله النخب الثقافية، الى المجتمع التداولي، الذي هو مجتمع مركب من حقول وقطاعات منتجة او من قوى حية ومشروعيات فاعلة، تشارك جميعها في اقتراح الحلول وعمليات البناء، عبر تبادل الخبرات والمهارات، او عبر الانخراط في المناقشات، سواء على مستوى قطاع او بين القطاعات أو في الفضاء العمومي. وفي المجتمع التداولي، كل فرد هو فاعل ومؤثر، بقدر ما هو خالق وصانع. حتى العاطل عن العمل هو في النهاية"فاعل"، ولكن بصورة سلبية، كما هو شأن كل المهمشين والمحرومين والمقهورين والمستبعدين عن المشاركة في حمل المسؤولية. ولذا إذا أردنا تفعيل مجتمعاتنا وإطلاق قواها الحيّة يجدر بنا التعامل مع الافراد لا كرعايا، بل كمواطنين فاعلين يمتلكون القدرة على صناعة حياتهم والمشاركة في بناء مجتمعاتهم. بذلك نتجاوز اليوم مفهوم المواطن بتوسيعه وإغنائه، من خلال التعامل مع الفرد كؤمن، ومواطن، وشريك، ومختص، ومنتج، وفاعل، ومسؤول... كما هو شأن كل من ينخرط في تجربة حية تصدر عن هوية مركّبة غنية بأبعادها المتعددة ووجوهها المتداخلة ومستوياتها المتشابكة وأطوارها المتراكبة. هذه التحولات على غير صعيد تستدعي تغييرا في أنماط المعقولية وصيغ العقلنة بأطرها ومعاييرها وبرامجها وتقويماتها وتقديراتها وآليات عملها. فمع الحدث الافتراضي والانسان الرقمي والفاعل الميديائي ورأسمال المعرفي، ثمة عقلانية جديدة آخذة في التشكّل والعمل، تتراجع معها الصيغ المسبقة والقرارات الجاهزة والاطر المغلقة والمناهج الدغمائية والاوامر الفوقية والمعالجات الاحادية والمواقف المتطرفة. ذلك انه اذا كان الواقع، الذي غدا افتراضياً بأشيائه العابرة، يزداد تعقيداً وتشابكاً وتسارعاً وتحوّلاً والتباساً، فإن الحاجة تصبح ماسة للتمرس بعقلانية جديدة، مرنة، مفتوحة، محايثة، نسبية، نقدية، ارتدادية، متحركة، مركبة، تداولية، هي دوماً قيد الانبناء والتشكل، على سبيل التغذية والتطعيم والتهجين، واعادة البناء والتركيب، بحيث تتيح العمل والتدخل والمشاركة، في اعمال الادارة والتسيير او مشاريع التنمية والبناء، لأكثر من لاعب، يعملون في غير بلد وعلى غير مستوى أو في غير اتجاه، وبصورة تتيح التفاعل المثمر بين اكثر من تقليد او منهج او مقاربة. هذا هو منطق العصر: التهجين والتفاعل بين الثقافات والاختصاصات والشركات. وكما أنه يمكن أن تتحالف شركتان لإنتاج السيارات رينو ونيسان، يمكن ان يندمج علمان لتطوير المعارف، كما يمكن ان تتفاعل ثقافتان لتركيب صيغة للتعايش. وهكذا نحن إزاء طريقة جديدة في ادارة الاشياء والمصالح والقضايا، وخصوصاً الافكار، قوامها الاعتراف والتوسّط والتهجين والخلق والتحوّل، كما هو شأن العقلانية التداولية. والفكرة الخلاقة ليست هي التي تصحّ بذاتها، بل بسياستها وطريقة ادارتها ومؤسسات تداولها او ادوات تأثيرها، تماماً كما ان الهوية الغنية لا تقوم بذاتها ولا تكتفي بذاتها، بل بتوسط الغير والتبادل معه او التأثر به. من هنا يبدو مدى التبسيط والخداع في مشاريع الاصلاح والتنمية كما يطرحها الدعاة. فما من اجله او به يكون الاصلاح، بات هو نفسه بحاجة الى الاصلاح بعد ان فقد مصداقيته وفاعليته، اي قدرته على فهم الواقع والتأثير في مجرياته مما يعني الحاجة الى اصلاح هو تغيير مركب من غير وجه: 1- الاصلاح لا يقوم على تطبيق صيغ او نظريات او نماذج جاهزة، وإنما هو عمل خلاق على المعطيات ينطوي على تجديد وتوسيع وتطوير، كما ينطوي على ترميم وتلقيح وتهجين، ولذا، لا اصلاح ولا تغيير، من غير ابتكار يتجلى في خلق البدائل او تركيب النماذج. 2- الاصلاح ديناميكية تحويلية من حيث مفاعيلها الايجابية يتزحزح بها المرء عن مركزيته ويتغير عما هو عليه، لكي يسهم في تغيير سواه، وفي تغيير الواقع. ولذا، فانه يمس الاهداف والثوابت بقدر ما يمس الطرق والوسائل. انه علاقة متجددة ومتحولة مع المبادئ والثوابت، بقدر ما هو تجديد متواصل للصيغ والآليات. 3- الاصلاح ليس عمل فرد او حقل او فئة، وإنما عمل المجتمع على نفسه في سائر حقوله وقطاعاته المنتجة، وبتدخل مختلف مشروعياته وهيئاته الفاعلة والمسؤولة. ولذا فهو لا يتم بعقلية مركزية فوقية او نخبوية بيروقراطية، بل بعقلية المباحثة والمداولة. 4- الاصلاح ليس من قبيل الحلول القصوى او المعالجات النهائية، فيما الواقع يزداد تسارعاً في حركته وتغيراً في معطياته. وإنما هو مهمة ميدانية ويومية، اي سيرورة متواصلة من المراجعة والمحاسبة، أو من البناء واعادة البناء، توسيعاً وتطويراً او تغذية وتهجيناً او تجاوزاً وعبوراً. 5- الاصلاح ليس عملاً احاديا والمستوى والوجهة، فيما الواقع يزداد تعقيداً وتشابكاً في مختلف جوانبه وقطاعاته، الامر الذي يعني أن فعل التغيير، أيا كان الشعار، إنما هو عمل مركّب ينتج عن التداخل والتفاعل والتراكب بين اختصاصات وقوى وثقافات مختلفة بقدر ما يتمّ على مستويات متعددة، محلية واقليمية ودولية. فلا داعي اذن لان نخشى مساعي الاصلاح والتحديث، أكان المطالب من الداخل أم من الخارج. فالذي ينجح اليوم في اصلاح احواله، يساهم في إصلاح غيره كما في إصلاح الشأن البشري المشترك، بقدر ما يشارك في انتاج المعارف والثروات أو يشارك في صياغة العقول والحقوق. واذا كانت الأزمة التي تعصف في غير مجتمع وجودية، فإن الحاجة الى الإصلاح والتغيير هي عالمية كوكبية، بمعنى أنه اذا كان اصلاح العالم العربي حاجة عالمية، فإن العالم نفسه يحتاج الى إصلاح. انها مسؤولية متبادلة في عصر الاعتماد المتبادل. خلاصة القول، ليست المسألة مَن يغيّر مَن؟ ولا هي عمّا إذا كانت محاولات الاصلاح والتحديث تنبثق من الداخل او تُملى من الخارج؟ فلا مهرب من التغيير، أياً كان العنوان، إزاء تحديات ثلاثة تجابهها المجتمعات العربية: المشكلات المزمنة داخليا، والضغوط المتزايدة خارجيا، والتحولات الجذرية المتسارعة عالميا. ومَن يتقوقع ولا يعرف كيف يتغير، هو الذي لا يحسن استخدام عقله لكي يهدر الفُرص والموارد، او لكي يتراجع الى الوراء، مستجمعاً مساوئ الأنا والغير او الماضي والحاضر، كما تشهد الاصوليات المزدهرة هذه الايام. ومَن يُحسن ان يتغير على سبيل الابتكار والازدهار في فتح الآفاق والمجالات أمام الحياة بالتفكير الخلاّق والعمل المثمر، هو الذي يمارس حضوره البنّاء والفعّال في إدارة الشأن الكوكبي. كاتب لبناني.