تفاعلات سياسية جديدة تشهدها مصر الآن. يتمنى لها المتفائلون أن تنتظم في مسار إصلاحي معلوم يقوم على توافق وطني، فيما يخشى المتشائمون الكثُر أن يؤدي سوء إدارة المشكلات المتعلقة بعملية الإصلاح إلى الانزلاق نحو مجهول. وللمرة الأولى منذ أكثر من نصف قرن، أصبحت التظاهرات، ما خرج منها وما مُنع، محور هذه التفاعلات وأهم ما ميز المشهد السياسي خلال الشهر الماضي. قوبلت هذه التظاهرات في البداية بتسامح نسبي لم يستمر لأكثر من ثلاثة أسابيع. فلم تلبث سلطة الأمن أن عاودت تحفظها الذي أعادته إلى مبررات تنظيمية. كان الحرص على حركة السير ومنع البلبلة في الشارع مبررا معلنا لمنع تظاهرتي الإخوان المسلمين وحركة"كفاية"في 27 و30 آذار مارس الماضي على التوالي، بعد السماح رسميا أو ضمنيا بتنظيم ست تظاهرات خلال الشهر نفسه. غير أن الدافع السياسي لهذا التراجع ليس خافيا. فقد ازداد قلق نخبة الحكم لتوالي التظاهرات واتجاهها الصعودي الذي بدا سريعا، على نحو يمكن أن يقود إلى تغيير جوهري في أنماط التفاعلات السياسية الرتيبة التي تراهن هذه النخبة على أن يكون التغيير فيها بطيئا ومحسوبا وتحت السيطرة. فأهم ما يحدث في مصر الآن هو كسر حاجز الخوف من الحركة السياسية والنزول إلى الشارع، بعد أن كُسر هذا الحاجز على صعيد الكلام أو التعبير السياسي. بدأ المصريون في التعود على مشاهد التظاهرات في قلب العاصمة. لذلك أرادت حركة"كفاية"النزول إلى الشارع في مدن أخرى، فدعت إلى تظاهرات في الاسكندرية والمنصورة والقاهرة في اليوم نفسه. هذا التطور الذي يكسر حاجز الخوف من نقد السلطة في الشارع والمطالبة بتغييرها يزيد خوف هذه السلطة في عام بدا بعض أركانها متأخرين في إدراك أنه ليس كغيره. إنه عام يجمع الانتخابات الرئاسية الأولى من نوعها والانتخابات البرلمانية في لحظة تاريخية يطرق فيها التغيير باب دول عربية عدة. وفي مصر يطل التغيير برأسه مدفوعا بتطورات داخلية وخارجية على حد سواء. داخليا، حرك التحول نحو اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب وليس الاستفتاء التفاعلات السياسية والحزبية التي ظلت مجمدة لفترة طويلة. ولكن هذا التحول شجع، في الوقت نفسه، من رأوه محدودا وجزئيا على ممارسة مزيد من الضغط، خصوصا في ظل ميل فريق نافذ في نخبة الحكم إلى تفريغه من مضمونه التنافسي التعددي. ولذلك انضم معظم أحزاب المعارضة المتصالحة مع الحزب الحاكم إلى القوى التي يخاصمها في التحذير من"السيناريو التونسي"، حيث الانتخابات الرئاسية مجرد شكل من دون مضمون. وقام حزب التجمع اليساري، وهو أهم هذه الأحزاب، بتسيير تظاهرتين صغيرتين. وبسبب هذا الخلاف، وخلافات أخرى على إدارة الانتخابات البرلمانية، غطت أصوات ترفض الإصلاح الجزئي البطيء على فعاليات الحوار بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة والتي ستدخل جولتها الخامسة بعد أيام. وساهم في ذلك عاملان : أولهما جرأة بعض قوى الرفض، وخصوصا حركة"كفاية"التي نقلت التفاعلات الداخلية في مصر نقلة نوعية عبر رفضها ولاية جديدة للرئيس مبارك، وشعارها"لا للتجديد... لا للتوريث"، وبعض هتافاتها الجديدة مثل"كفاية كفاية كفاية... إحنا وصلنا للنهاية". أما العامل الثاني فهو الأخطاء التي يرتكبها هذا الفريق أو ذاك في نخبة الحكم التي تبدو مرتبكة ومفتقدة التنسيق اللازم لإدارة مرحلة انتقال صعبة تتطلب وجود"مطبخ"سياسي قادر على قيادة هذه المرحلة في مسار إصلاحي معلوم وتجنب خطر الانزلاق إلى المجهول. وفي غياب هذا"المطبخ"تكثر ردود الفعل غير المدروسة من نوع قرار القبض على رئيس حزب"الغد"أيمن نور في قضية كان أي حساب للخسائر والمكاسب فيها يقود إلى تجنب مثل هذا القرار. فقد أدى ذلك الخطأ إلى ازدياد الضغط الخارجي، وربما نقله إلى مستوى أعلى. فالضغط الذي حدث من أجل إطلاق سراح نور كان مختلفا، ليس فقط في حجمه ولكن أيضا في نوعه. فقد شمل ضغطا أوروبيا مباشرا لا سابق له على هذا النحو. واستند هذا الضغط على اتفاقية الشراكة المصرية - الأوروبية التي تتضمن التزاما مشتركا بدعم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة واستقلال القضاء. وفضلا عن الضغط الأوروبي، وبالتوازي معه، يزداد الضغط الأميركي خطرا - وليس فقط حجما - في ظل ضعف الأداء المصري الرسمي على صعيد مشكلات الإصلاح الخارجي منها والداخلي على حد سواء. وأخطر ما في الضغط الأميركي في صورته الراهنة هو التطور الذي حدث في موقف إدارة بوش الثانية تجاه حركات الإسلام السياسي في العالم العربي من زاوية الاستعداد لقبول وصولها إلى الحكم عبر انتخابات ديموقراطية. ويعني ذلك أن"حماس"الفزَّاعة"حماس"الأصولية التي تستخدمها نظم حكم عربية عدة لتخويف الغرب، وأميركا خصوصا، من تداعيات إصلاح ديموقراطي حقيقي لم تعد تفزع، أو على الأقل لم يعد لها الأثر السابق كله. وهذا تطور يزيد تعقيدات مسألة الإصلاح، لأنه يقترن بازدياد الضغط القادم من الخارج، ويساعد في الوقت نفسه، على تنامي الضغط الداخلي. ففي إمكان الإخوان أن يقولوا ما يشاؤون عن رفضهم التدخل الخارجي، وهم صادقون في قولهم. لكن واقع الحال أن الضغط الأميركي، المصحوب بتغيير في موقف واشنطن تجاه وصول أصوليين إلى الحكم، يشجعهم وربما يوفر لهم أيضا مظلة أمان ضمنية أو مفترضة افتقدوها سابقا. والأرجح أن ينخفض مستوى القمع ضد نشطائهم عما كان عليه في الفترة الماضية. وربما يكون الأسلوب الناعم في تصدي السلطات للتظاهرة التي حاولوا تنظيمها في 27 آذار الماضي، مؤشرا أول. وقد أتاح لهم ذلك فرصة لتنظيم أكثر من تظاهرة فرعية صغيرة، ولكن بعيدا عن الموقع المختار للتظاهرة الأصلية أمام مقر البرلمان. ولا يعني ذلك أن قرارهم تنظيم تظاهرة منفردة للمرة الأولى منذ 1954 ارتبط بمتغير خارجي في المقام الأول. فلهذا القرار دوافع داخلية في الأساس أهمها قلق الإخوان من ضعف حضورهم في المشهد السياسي المصري المتعلق بالإصلاح، مقارنة بأحزاب وقوى أخرى. فهم غائبون عن الائتلاف بين أحزاب المعارضة الأساسية، وعن الحوار بين الأحزاب. كما كانوا غائبين عن التظاهرات التي حدثت في الفترة السابقة على قرارهم تنظيم تظاهرة. ولذلك كان نزولهم إلى الشارع مدفوعا بتفاعلات داخلية قبل أن يكون للعامل الخارجي دوره الذي سيكون له أثره، بطبيعة الحال، في إعادة صوغ التفاعلات السياسية في مصر في جانبها المتعلق بالإخوان. ولأن هذا يثير قلقا مفهوما لا يقتصر على نخبة الحكم، فقد حرص الإخوان على طمأنة الخائفين منهم فجعلوا تظاهرتهم التي اعتزموا تسييرها إلى مقر البرلمان"رمزية". ورغم أن هذا الحرص لم يحل دون قرار منع التظاهرة، بدا قادة الإخوان الأكثر انفتاحا واستنارة راغبين في تأكيد معنى أنهم جزء في عملية الإصلاح، لطمأنة الخائفين من أنهم قد"يخطفونها"أو يتغولون على دور غيرهم فيها. وعبر أحدهم عن ذلك بقوله إنهم لن يسعوا لتنظيم"تظاهرة مليونية"إلا إذا استطاعت القوى الأخرى حشد أعداد كبيرة من المتظاهرين حتى لا يكون الحشد"إخوانياً"في معظمه. وهذا الموقف يفيد أن بعض قادة الإخوان على الأقل معنيون بالتكيف مع مقتضيات حركة إصلاح ديموقراطي تقوم على التعدد لا الانفراد. ولكن ليس ثمة ما يدل، حتى الآن، على أن هذا الموقف هو السائد في داخل الإخوان الذين يوفر لهم بعض المتغيرات الدولية وضعا أفضل من ذي قبل على صعيد الصراع الممتد بينهم وبين نظام الحكم. وهكذا يضيف التأثير المتبادل بين العاملين الخارجي والداخلي إلى تعقيدات العام 2005 في مصر مزيدا، خصوصا في ظل أداء ضعيف على صعيد عملية الإصلاح يدفع إلى القلق من... المجهول. خبير في مركز الأهرام للدراسات