سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
زيارة إستعادية ل "اجتثاث البعث" في ضوء الجدل الذي أثاره في مسودة الدستور العراقي . المقارنة مع تجربتي نزع النازية في ألمانيا ومحاكمة الماضي النمسوي 1 من 2
فتحت مناقشات مسودة الدستور العراقي الجديد سواء في الجمعية الوطنية او في لجنة الصياغة النقاش مجدداً حول موضوع استئصال"البعث"او اجتثاثه وشكلت النقاشات مناسبة اخرى للانقسام حول المشروع بين رافض للفكرة من موقعه الطائفي ومؤيد لها من موقعه الطائفي ايضاً. وثمة فئة ثالثة اعتبرت ان الاجتثاث عبارة لا تنتمي الى قاموس الديمقراطية. هنا مساهمة من حلقتين في هذا النقاش: كان نزع البعث في العراق عابراً وخاطفاً، لكن هذا العمر القصير سجّل مشهدين صارخين ارتبط بهما حدّا الولادة والموت: أولهما بداية ملحمية هي جزء من الديكور القيامي الذي رافق الاحتلال الأميركي، والثاني إصابةٌ عيادية بالغيبوبة يتلوها ترك الميت يموت ببطء وسط صمت يشبه التكتّم على الفضيحة. بيد أن الحَبَل بالوليد كان في جزء منه لغوياً. فقد آثر المترجمون العراقيون تعريب نزعde- ب"اجتثاث"uprooting. وقياساً ب"الاجتثاث"، وهو تعبير زراعي المصدر يشير الى التخلص الجذري من النبات الطفيلي والضار، يبدو النزع حيادياً وإجرائياً، إن لم يكن وديعاً. وفي هذا"الخطأ"كان يلتقي اتجاهان راديكاليان بمعنى ما: اتجاه ثقافي يمكن التنقيب عنه فيلولوجياً، سببُه العميق ضعف التقاليد الديموقراطية في الثقافة العراقية، والعربية عموماً. وهو ضعف كان من الطبيعي ان يتعاظم بعد كبت دام 35 عاماً من حكم بعثي توتاليتاري. واتجاه سياسي جسّدته الحرب الاميركية بصفتها قطعاً انقلابياً مع التقاليد السياسية والقوانين والأعراف الدولية. وكان ان لرعونة التعبير أن ذكّرت بعهد صدام. فالأخير فرض التبعيث بقوة السلطة واجتث، بالمعنى الحَرفي، من يقفون في طريق حكم الحزب الواحد. وجاء نزع البعث ليُفرَض أيضاً بالقوة، وهي، هذه المرة، قوة طرف محتل. لكن الفيلم لم يبدأ من دون مشاهد تمهيدية. فبشيء من الارتباك، تسلم شأنَ العراق، بُعيد الحرب والاحتلال في نيسان ابريل 2003، الجنرال المتقاعد جاي غارنر. لكن بعد شهر واحد فقط بدأ الجدّ مع وصول بول بريمر الى بغداد. وغارنر، على ما يبدو، لم يكن مؤيداً لسياسة الاجتثاث التي اتبعها خلفه. لا بل نقلت"مصادر أميركية مطلعة"عن ستيفن براوينغ، أحد مساعديه، قوله إن الخطة الأميركية المعتمدة حينذاك تتضمن خطوتين:"الأولى إجراء حوار مع القيادات المعتدلة في حزب البعث لتأهيلها لدور مهم في المستقبل السياسي للعراق، والثانية، بقاء موظفي البعث في مواقعهم على ان يعلن هؤلاء براءتهم من البعث"الحياة، 15/1/2004. وعلى العموم، اكتفى صانعو السياسة العراقية، في عهد غارنر القصير، بإبعاد القادة البعثيين ممن يحتلون مواقع مسؤولية في الادارة عن مواقعهم. وبدا هذا موقفاً حكيماً وعادلاً في آن. لكن بعد ذاك بدأ"الاجتثاث". ففي 16 أيار مايو 2003 أصدر بريمر بوصفه مدير سلطة الإئتلاف الموقتة ما عُرف ب"الأمر الرقم واحد"القاضي بنزع البعث عن المجتمع العراقي، تبعاً لما عاناه الأخير على يد الحزب المذكور. وفي 13 تموز يوليو 2003، شكلت سلطة الاحتلال"مجلس الحكم المؤقت"العراقي، وبعد عشرة أيام أصدر المجلس الجديد بيانه السياسي محدداً تسع نقاط لعمله كانت ثانيتها"تصفية آثار الاستبداد السياسي والتمييز القومي والطائفي واجتثاث حزب البعث وأفكاره من المجتمع العراقي وترسيخ مبادىء التعددية السياسية والديموقراطية"الصحف، 23/7/2003. وتراءى للمراقبين أن النهج هذا سوف تُكتب له حياة مديدة، وإذا الجميع يتهيأون لأحداث تضج حيويةً. ما لا شك فيه ان البعث تنبغي محاسبته على نحو صارم. فالحزب الذي حكم العراق بين 1968 و2003، قلب المجتمع رأساً على عقب، ودمّر حياة مئات آلاف السكان، بمن فيهم الذين انتهوا في مقابر جماعية، فضلاً عن جرّهم الى حربين عدوانيتين وقصف بعضهم بالسلاح الكيماوي. وفي الغضون هذه احتكر النظام البعثي، مثله مثل أي نظام توتاليتاري، كل المواقع في المؤسسات الاجتماعية والتعليمية وغيرها. لهذا بدا تحرير الدولة والمجتمع من قبضة ايديولوجيته الحاكمة شرطاً لا بد منه لبناء عراق بديل. ويمكن قول الشيء نفسه عن ضرورة ردّ المُلكية التي استولى عليها البعث الى اصحابها. أما إخضاع المسؤولين عن انتهاكات المرحلة السابقة للعقوبات التي يستحقونها بموجب محاكمة عادلة فأمر بديهي. الا اننا هنا لا بد من ان نستدرك قليلاً: فصدام حسين الذي فرض التبعيث ابتدأ ب1968، كان هو نفسه مَن بدأ نزع البعث حين أعاد، في العقد الأخير من عهده، الإعتبار للعشائر وجعل الحزب مجرد واجهة لحكم عائلته وحكمه الشخصي. وبسبب هذه السياسة باتت قاعدة النظام تساوي منطقة"المثلث السني"حيث تقع تكريت وقريته العوجة. وهو ما جعل قرار الاجتثاث الأميركي يبدو ذا طبيعة مزدوجة: فهو يعني أيضاً، بغض النظر عن نوايا من أصدروه، انتقاماً من طائفة ومنطقة بقدر ما هو تفكيك لقبضة حزبية وايديولوجية على المجتمع العراقي. أضف الى ذلك أن الانتساب الى البعث، أقلّه منذ 1990، صارت تتحكم به الاعتبارات المصلحية والانتهازية، وأحياناً مجرد الحصول على فرصة عمل، وهناك من انضوى تحت التهديد والضغط النفسي والإكراه. وهي عوامل غدت أشد تحكماً بكثير في تقرير العضوية الحزبية من الاعتبارات الايديولوجية. فكيف وأن العنصر الثقافي هو نفسه ضعيف جداً في العقيدة البعثية المنتفخة بالانشاء الخطابي، والتي تحولت في عهد صدام الى بضعة طقوس تتباهى في تمجيده؟ وهذا كله يلغي، أو على الأقل يعقّد، أحد أهم شروط العقاب والمحاسبة بالمعنى المتمدّن للكلمة، أي افتراض أن المرتكب"فرد"قام بما قام به استناداً الى قناعات كوّنها بنفسه. فهنا، يلوح الارتكاب البعثي متداخلاً مع موقف أهلي يعكس الاضطراب التاريخي في النسيج الوطني العراقي، ذاك الاضطراب الذي وظّفه واستفاد منه الحاكم المستبد وحاشيته. وهذا، بالطبع، لا يعني ان المرتكبين يجب أن يحظوا بالصفح والنسيان، إلا أن الرد على سلوك غير ايديولوجي لا ينبغي له، في المقابل، أن يكون رداً مؤدلجاً على ما هي حال اجتثاث البعث. فالمعالجة ذات الخلفية العقائدية لمشاكل كهذه تفتقر الى المرونة بقدر ما تؤول الى ثأرية جماعية لا يتخللها التمييز. الى ذلك، تطرح المسألة هذه مشكلة التعامل مع الارث الذي تخلّفه الأنظمة التوتاليتارية عموماً، وليس النظام البعثي وحده. فالأنظمة المذكورة، مثل جانوس الروماني، ذات وجهين: أنها تقمع الشعب وتفتّته كيما تسيطر عليه، وأنها بفعل اتساع سيطرتها تغدو شعبية الى هذا الحد او ذاك. فهي تُمسك بالحياة الاقتصادية والفرص الاجتماعية جميعاً، كما تستولي على التعليم وصناعة العقول عبر جميع الوسائط الايديولوجية المتاحة مادّةً شبكتها من الحيّز العام الى الحيّز الخاص للأفراد. ويكفي، في ما خص البعث العراقي، أن نتذكر أنه قضى في السلطة ثلاثة أضعاف الفترة التي قضاها النازيون في حكم ألمانيا، وفي تلك الفترة ظهرت أجيال من الشبان لم تعرف الا صدام قائداً وزعيماً، ولكنْ أيضاً أيقونةً تعادل ما مثّله ألفيس بريسلي وجيمس دين ومادونا لشبيبة الغرب. هكذا يغدو في وسعنا تقدير الأعداد التي يمكن ان يطالها أي انفجار ثأري، فيما تصطبغ عملية كهذه بلون طائفي طاغٍ بالضرورة. ويذكّرنا صحافي لبناني زار بغداد مراراً بعد الحرب وكتب عنها مطولاً، كم أن أسباب الثأر خصبة هناك. ف"الوثائق التي في حوزة منظمات أمنية وأهلية وطائفية، والتي نُهبت من مراكز الأمن والاستخبارات، استُعملت في عمليات انتقامية ما زالت فردية، لكن احتمال توسعها أمر قائم". ثم هناك الوضع المختلط الذي يحضّ على أعمال الثأر وتصفية الحسابات بعيداً عن الدولة والقانون، خصوصاً في ظل ضعف الاثنين. ففي العراق"يحتاج كل شيء تقريباً الى اعادة تحديد وتقويم. الأملاك العامة والخاصة، وسجلات النفوس، ومَن هو الميت ومَن على قيد الحياة، ومَن قتل مَن، ومَن البريء ومَن المتهم. ثمة مساجد مثلاً قامت طوائف أخرى باحتلالها مدعيةً أنها انتُزعت منها خلال حكم البعث، لكن لا يوجد دليل قاطع على ذلك. وهناك من يقول ان هذه المزرعة كانت لعائلته وصادرها النظام السابق. وقد قام فعلاً عدد من المسؤولين العراقيين الجدد باقتطاع أملاك عامة مدّعين مُلكيتها أصلاً. وهذا قبل أن ندخل في قضايا المقابر الجماعية ومُخبري الأحياء والأزقّة والمخاتير الذين كانت وظيفتهم إبلاغ العائلة بخبر إعدام أحد أفرادها، ناهيك عن الضباط والقضاة الموقعين على قرارات الإعدام التي صارت تجد نسخاً عنها في أيدي الجميع"حازم الأمين، الحياة، 13/11/2003. وثمة للمسألة جانب آخر لم يكن من الجائز إغفاله. فقد بات واضحاً ان مشاكل الخروج من أنظمة توتاليتارية او ديكتاتورية او عنصرية تغدو أصعب اذا ما ترافقت مع احتلال خارجي. فالاحتلال، من جهة، يؤدي الى وصم التغيير ب"الخيانة الوطنية"، أو أن هذه، على الأقل، التهمة الجاهزة والسهلة التي يستخدمها المتضررون من التغيير. وفي ظل الاحتلال ترتفع، من جهة أخرى، وتيرة النزعة الثأرية، أو التأويل الثأري للأحداث، أكثر مما في ظل التغيير من الداخل، كما تصبح المصالحة الوطنية أبعد منالاً. فمن اسبانيا الفرانكوية الى تشيلي بينوشيه، مروراً بجنوب افريقيا والاتحاد السوفياتي وبلدان كتلته، بدت الأمور أسلس مما في العراق. ففي البلدان هذه جميعاً لا تزال قوى النظام السابق مقيمة، بشكل أو آخر، في النظام الذي ورثه. ففرانكويو اسبانيا وشيوعيو بلدان الكتلة الشيوعية جددوا أنفسهم وعاد بعضهم الى السلطة في بلدانهم ولو من ضمن نسق ديموقراطي مختلف. لا بل ان ولادة النظام الجديد في بلدان كتشيلي حيث تسلم بينوشيه الجيش وبولندا توقيع معاهدة الطاولة المستديرة مع نظام جاروزلسكي في 1989، وبمعنى ما جنوب أفريقيا دور"العنصري"ديكليرك والاتحاد السوفياتي دور"الشيوعي"غورباتشوف، جاءت كلها مشوبة بتسويات مع النظام القديم. والفارق هذا انما يستدعي في الحالة العراقية درجة أعلى من الاحتراز والعناية. فمن خسر السلطة هناك يبدو كأنه خسرها بالمعنى المطلق الذي تتضاعف إطلاقيته بفعل الاحتلال الاجنبي. وخسارة مضاعفة كهذه ترشّحه، بين ليلة وضحاها، للتحوّل منبوذاً أو مارقاً. لكن المرونة البراغماتية المطلوبة استثنائياً في الحالة هذه أخلت مكانها للنزعة الايديولوجية. فاجتثاث البعث، في ارتباطه بحرب"الخير"الأميركية على"الشر"الإرهابي، بدا بنداً إيمانياً بامتياز. وليس بلا دلالة أن أقطاب وزارة الدفاع الأميركية وكذلك صحيفة"وال ستريت جورنال"التي تفتح صفحاتها للصحافيين والكتّاب ذوي التوجه اليميني الراديكالي، كانوا من أوائل الذين أثاروا الشبه بين نزع البعث ونزع النازية. ففي هذه الجريدة، مثلاً، كتب دانيال جونسون متسائلاً:"كيف يستطيع الأميركان والبريطانيون كسر ما تبقى من قبضة لحزب البعث الاشتراكي على الشعب العراقي؟ آخرَ مرة واجه الحلفاء مشكلة صالحة للمقارنة بالمشكلة هذه كانت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حين أوكلت اليهم هزيمة ألمانيا مهمة إعادة تثقيف أمة مهزومة في ساحة المعركة لكنها لا تزال مشبعة بالمعتقدات النازية. ومثلما تم نزع النازية بنجاح فإن تحدي العراق اليوم هو نزع البعثية". ويمضي الكاتب مستشهداً، بطريقة لا تخلو من ضيق أفق، بالمؤرخ برنارد لويس الذي ينسب اليه أنه قال إن"الأصول الايديولوجية للأحزاب البعثية في العراق وسورية يمكن العثور عليها في ألمانيا الهتلرية"وال ستريت جورنال، 24/2/2003. وما لبث الخط هذا ان وجد صراحةً أكبر في التعبير عنه عند باقي مُنظّري"المحافظين الجدد"الأميركان. فكتبت، مثلاً، مايراف ورمسر تحت عنوان"القراءة، الكتابة، نزع البعثية"، مُعددةً المهام الأبرز المطروحة على العراق الجديد، وأصعبها إحلال أفكار"ليبرالية-ديموقراطية"محل ثقافة البعث الناهضة على"الاستعباد والحقد"ذي ويكلي ستاندارد، 5/12/2003. وكان ما يضاعف القلق في هذا كله ارتباط الاجتثاث بمجمل السياسات الراديكالية الأخرى التي ترافقت مع بدايات الحرب، كالرغبة في نزع"الهوية العربية"للعراق التي يتمسك بها خصوصاً القطاع العربي السني من السكان، أو الانتقال، بين ليلة وضحاها، الى سلام كامل مع اسرائيل، أو حل الجيش العراقي الذي يرمز، عند القوميين العرب السنّة، الى ما يسمونه الهوية والكرامة. والعناوين هذه إنما تُترجَم في الحسابات الداخلية والطائفية إضعافاً للموقع السني-العروبي الخائف أصلاً من تراجعه أمام تعاظم أعداد الشيعة. وفوق هذا تقف اعتبارات عملية من نوع أبسط إلا أنها أوثق اتصالاً بشروط الحياة اليومية للسكان. فقد رأت مبكراً أوساط من السنّة العرب ان الهدف من اجتثاث البعث هو"اجتثاث النفوذ السني داخل الوزارات والمؤسسات الحيوية في البلاد"، كما ربطت بين دعم"المجلس الأعلى للثورة الاسلامية"، وهو أبرز الأحزاب الشيعية المشاركة في العهد الجديد، لسياسة الاجتثاث، وبين طموحه في السيطرة على"ميدان التعيين لمناصريه وعناصره كبديل عن البعثيين المفصولين". وكان يعزز هذه التوقعات السوداء أنه بات من شروط نيل الوظيفة الانتساب الى أحزاب"مجلس الحكم"الجديد الحياة، 15/1 و29/3/2004. صحيح أن لجاناً للتدقيق قد شُكّلت هدفها"منع وقوع غبن في عمليات اجتثاث البعثيين"، لكن البيئة السنية العربية ظلت مُصرّةً على أن هذه اللجان لا تستطيع إنقاذ من يلجأون اليها ممن يُفصَلون من وظائفهم"الحياة، 15/1/2004. ومن لم يخَفْ من القرار خاف من الأشخاص الذين تولّوا المهمة. ذاك أن تسليم أحمد الجلبي رئاسة لجنة اجتثاث البعث كان كافياً لتحويل الشك الى يقين. فهو من بين معارضي صدام أقربهم الى وزارة الدفاع الاميركية و"المحافظين الجدد". لكنه أيضاً سليل الأسرة التجارية الشيعية التي غادرت العراق بعد الانقلاب الجمهوري في 14 تموز 1958. منذ ذلك الحين نشأ الجلبي وترعرع على مرارة حيال كل الاتجاهات القومية والاشتراكية العربية التي غالباً ما ارتبطت بضباط عسكريين سنّة. وقد تطور لديه نوع من الوطنية العراقية التي تفترض غلبة شيعية منفتحة على الغرب وإسرائيل وإيران. هكذا رأينا الاجتثاث وتكليف الجلبي به يتحولان مصدراً لحذر بعض الزعامات السنية العربية خارج العراق، والتي كانت تفضّل سياسات أميركية أقل راديكالية في توجهاتها وفي تحالفاتها. فالملك الأردني عبد الله الثاني وأحمد الجلبي محكوم قضائياً في بلده بتهمة اختلاس بنك ربط بين ما يجري للبعثيين وبين ما نشهد"للمرة الأولى في العراق"من"مواجهة بين الشيعة والسنّة"، داعياً الى إعادة النظر بالاجتثاث لأن"كل من كان يريد وظيفة كان عليه أن يكون في حزب البعث"، ومحذراً من أن السنّة"شعروا منذ البداية بعزلة وبأنهم مُستبعَدون من مستقبل العراق". وقارن عبد الله، وهو صديق لواشنطن لا يمكن اتهامه بأي عداء لأميركا التي يتحدث لغتها أفضل بكثير مما يتحدث العربية، بين تجربة العراق وتجربة جنوب أفريقيا، فأشار الى"ان رئيس لجنة اجتثاث البعث نفسه ليس الاختيار الأمثل، وهو شيعي غير صالح للمهمة. أما في جنوب أفريقيا فكان ديزموند توتو رئيس لجنة المصالحة، وله تأثير إيجابي"رندة تقي الدين، الحياة، 18/5/2004. وبدل تهدئة الأعصاب وإثارة الطمأنينة، نشط الجلبي في تحريك مشاعر الخوف بين السنّة العراقيين والعرب. فالناطق بلسانه انتفاض قنبر، مثلاً، سارع الى التحريض من أنه"بعد فترة انكفاء أعقبت سقوط بغداد، عاد البعثيون الى النشاط وهم يتجولون بحرية في الشوارع من دون خوف"الحياة، 17/9/2003. وبقدر واضح من الثأرية كشف الجلبي نفسه ان لجان الاجتثاث طردت 28 الف موظف من دوائرهم، وأكد في مؤتمر صحافي ان هناك عدداً آخر يماثل هذا العدد أو يزيد، سيتم طردهم، وأن هذا الاجراء اتُخذ"بسبب ما عُرف عن حزب البعث من إيغال في الجريمة". ولم يخلُ عرضه من ألاعيب على طريقة بوارو، كاشف الأسرار في روايات أغاتا كريستي، كالاشارة الى أن الأدلة الثبوتية على إجرام البعث"وُجدت في أوراق شخصية كانت في حوزة صدام حسين لدى إلقاء القبض عليه". وهي أدلة تؤكد، في رأيه، ضلوع عناصر من حزب البعث في الهجمات الارهابية. أما عن المصالحة الوطنية بين العراقيين فأوضح الجلبي انها تُستخدم بشكل غير دقيق، داعياً الى"عدم نسيان التاريخ الملطخ لعناصر البعث القيادية وعدم جواز مد يد المصالحة الى كل من شارك في جرائم المقابر الوطنية أو قام بقتل أبناء شعبنا وتشريدهم"، مؤكداً على"إنهاء فكرة البعث الذي خلق وضعاً فوضوياً وتسلّط على رقاب الناس"الحياة، 12/1/2004. ولا بأس هنا بإجراء مقارنة مفيدة مع تجربة مألوفة جداً لدى طلاب التاريخ الأوروبي الحديث، وهي مقارنة كافية لأن تستنفر الشعور بالغبن لدى عراقيين كثيرين: ففي مقابل تبعيث العراق بالقوة مع استيلاء البعث على الحكم فيه عبر انقلاب عسكري، اختلف كثيراً أمر النمسا مع النازية. فهذه الأخيرة غدت شعبية وواسعة الانتشار هناك منذ وصولها الى الحكم في البلد الجار الكبير، ألمانيا. فقد خاطبت الطبقات الوسطى الدنيا والفلاحين وعمال المناجم والموظفين والحِرَفيين والتجار والطلاب والمثقفين. وكان حضور هؤلاء في الحركة الفاشية حاداً ومميزاً بحيث لعبت تحركاتهم في جامعتي فيينا وغراز دوراً ملحوظا في التوترات الداخلية التي تلاحقت بين 1933 و1938 مُفضيةً الى الاتحاد الأنشلوس. وكان الانضمام الى ألمانيا شعبياً جداً: فقد احتشد، في 15 آذار مارس من ذاك العام، ربع مليون نمسوي في ساحة هلدن بفيينا ليحيّوا الفوهرر. ووقف نصف مليون على امتداد رنغستراسّ كي يحتفلوا بإعلانه قيام الاتحاد. وفي الأيام التالية كانت أعمال السلب والنهب والتعدّي التي تعرض لها النمسويون اليهود من طبيعة جماهيرية. وفي ألبوم صُوَر تلك المرحلة لم تظهر وجوه فيينية عليها القلق والوجوم، ولم يظهر من يحبس الدمع على ما رأينا بعد عام واحد على وجوه سكان براغ ممن غزاهم هتلر. لكن بعد التحرير أُعفيت النمسا مما تعرضت له المانيا وهو ما نُعت ب"التصالح مع الماضي"أو، بحسب التسمية الألمانية الذائعة،Vergangenheitsbewaltigung . صحيح ان المحاكم النمسوية أنزلت حكم الاعدام بثلاثين شخصاً، لكن هذا كان أتفه الأثمان تُدفع مقابل ذاك التورّط التاريخي الخطير الذي لم يُناقَش ولم يُدرَس. واذا كان السياسي الاشتراكي اليهودي برونو كرايسكي أبرز رموز مرحلة ما بعد الحرب الثانية، فإنه شاء أن يستفيد من هذا التواطوء على الصمت حول التاريخ النمسوي، لا بل أشرك نازيين سابقين في حكوماته وامتنع عن تسليم مجرمي حرب نمسويين، الأمر الذي أثار خلافات معروفة مع"صائد النازيين"الشهير سيمون فيزنثال. وكان الفارق بين كرايسكي وبين المستشار الالماني كونراد أديناور ان الثاني خفّف من آثار المراجعة الفعلية التي ابتدأها الحلفاء للماضي الالماني من دون ان يُكملوها، فيما انطلق كرايسكي من رفض المراجعة جملة وتفصيلا. واستمر الصمت هذا حتى اختيار كورت فالدهايم رئيساً لجمهورية النمسا، هو الذي انتُخب، قبل ذلك، أميناً عاماً للأمم المتحدة لعشر سنوات ابتدأت ب1971. فقد تبين أن الرئيس المذكور إنما كان ضابطاً نازياً في البلقان حيث تواطأ مع الارتكابات النازية فيه. وقد حظي الميل الى مسايرة النمسا التي اختارت النازية طوعاً، بأوسع دعم دولي. وهي وجهة انطلقت مبكراً في تشرين الأول أكتوبر 1943 حين التقى في موسكو وزراء خارجية بريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة لمناقشة عدة قضايا ناجمة عن نتائج الحرب. وفي سياق المحادثات مروا بسرعة على وضع النمسا التي كانت منذ 1938 قد اصبحت جزءا من الرايخ، ووافقوا من دون صعوبة على تحريرها بوصفها"البلد الحر الأول الذي يقع ضحية العدوان الهتلري". والحال أن النزعة الايديولوجية والثأرية في العراق، بأصولها المحلية وتنظيرات"المحافظين الجدد"لها في واشنطن، جعلت كل دعوة الى"المصالحة الوطنية"مرفوضة. فمصالحة كهذه أصبحت الشعار الغالب في البيئة العربية السنية، فيما اتجهت القوى الفاعلة في البيئة الشيعية الى التشكيك بها راجع الحياة، 28/1/2004 و24/2/ 2004 و30/3/2004. صحيح أنه شذّ عن القاعدة بعض السياسيين المعتدلين الشيعة وبعض المثقفين الليبراليين واليساريين او المتحدرين عن أصول يسارية، كما ظهرت استثناءات بين ممثلي عشائر عابرة للطوائف تربط بينها القرابات والمصالح التجارية. لكن الانقسام الأهلي-الطائفي بقي المعيار الأساس في تقييم المصالحة الوطنية والحكم عليها. وبالمعنى هذا ظلت العاطفة الشيعية الغالبة تؤجّج هذا التوجه راجع مثلاً ما قاله الشيخ الشيعي وعضو"مجلس الحكم"آنذاك محمد بحر العلوم ل الحياة، 21/8/2003. والبائس ان العراقيين من أنصار الاجتثاث كانوا دائماً أكثر تشدداً من الأميركان. وهو ما كان يجعل روائح الثأر والانتقام قوية تزخم الأنوف. ففي أواخر كانون الأول ديسمبر 2003 صدر تقرير في بغداد مفاده أن"خبراء من دولة جنوب أفريقيا سيزورون العراق للمساعدة في وضع آلية للمصالحة على الطريقة التي تمت في بريتوريا". وتلاحظ الصحيفة التي نقلت الخبر ان"الإدارة الأميركية"ربما كانت وراء هذه الفكرة"إذ يؤيد الأميركيون إصدار مجلس الحكم، أو اي حكومة مقبلة، عفواً شاملا يؤدي الى التعجيل في إبرام المصالحة". لكن الصحيفة نفسها أضافت أن مسؤولاً في"المؤتمر الوطني العراقي"، وهو الحزب الذي يرأسه الجلبي، ذكر لها أن الوثائق التي قدّمها أهالي الضحايا"تؤدي الى محاكمة أكثر من 150 الف بعثي"، وأن هؤلاء الأهالي"يضغطون باتجاه شن حملة اعتقالات واسعة في صفوف البعثيين"الحياة، 28/12/2003. والواقع ان التفتت الطائفي والاثني كان البُنية التحتية التي تنهض عليها تلك المواقف والأقوال. فهي، في آخر المطاف، ما جعل اجتثاث البعث أداة لتعديل توازنات القوى المجتمعية والسلطوية، ومن ثم حرباً أهلية غير معلنة أكثر بكثير مما هو معالجة للماضي هدفها بناء مستقبل أفضل. والمقارنة مع التجربة الألمانية تتكفّل الاضاءة على بعض معاني المشكلة، علماً أن ألمانيا التي تجاوزت انقسامها الكاثوليكي-البروتستانتي هي أيضاً أوصلت هتلر الى الحكم عبر انتخابات ديموقراطية. فبصورة إجمالية عامل الالمان النازية، بعد الحرب الثانية، بصفتها سلطةً وعلاقاتٍ أكثر منها أفراداً، على اعتبار أن المجتمع هو من يتصدى لهذا"المرض"العابر. والسلوك هذا لم يخلُ من بعض علامات مُقلقة دلّت على تواطؤ وطني بعيد بين الألمان. وقد وثّق نوبرت فراي في كتابه"ألمانيا أديناور والماضي الألماني"مدى المعارضة في المانيا الغربية، خلال سنوات ما بعد الحرب، لإخضاع مجرمي الحقبة النازية الى العدالة او لإبعاد من كانوا مستعدين للمساومة مع النازية عن وظائفهم. وهو ما بات يُعرف، ترميزاً وتلخيصاً، بحقبة أديناور المبكرة وبطريقته في المعالجة. فبينما جعل الرسميون الألمان يتحدثون، حين يكونون على الحلبة الدولية، بندم عن الشعور بالذنب الذي تئنّ تحته أمتهم، لم تكن مسائل المسؤولية والعقاب، لدى التحدث داخل الوطن، بمثل هذا الوضوح. وبدءا ب1949 انقلبت الحكومة الالمانية بصورة دراماتيكية على سياسة نزع النازية التي تلت نهاية الحرب، مستفيدةً من ظروف الحرب الباردة وحاجة واشنطن الى توجيه الجهود كلها ضد الشيوعية والاتحاد السوفياتي. فأديناور الذي سجنه النازيون مرتين، أشرف على تمرير قوانين العفو عن المجرمين النازيين بالإجماع، وعلى إعادة المفصولين في 1945 الى مناصبهم. لا بل ان إجراءاته مثّلت ما هو اكثر من اعادة تأهيل لأفراد بعينهم، إذ أدت عملية العفو الى نزع الشرعية عن الاجراءات التي سبق للحلفاء أن اتخذوها بعد التحرير، كما خدمت في إشباع الحاجات البسيكولوجية الجمعية لمجتمع يتشوق الى قطيعة نقيّة مع كارثة سياسية واخلاقية لا مثيل لها. والرغبة هذه الى طيّ صفحة الماضي، والتي اجتمع فيها ميل براغماتي وميل إنكاري، تتناقض، في حالة بلد كالعراق، مع استمرار النزعة الثأرية على ايقاع الانقسام الطائفي الاثني. على أية حال، شاءت حقبة اديناور إعادة دمج النازيين السابقين بأي ثمن. فقد ساد الاعتقاد بأن ما حصل في السنوات الأولى للتحرير كافٍ، وأن الاقبال الجماهيري الالماني على أحزاب ديموقراطية دليل على ان ما حصل لن يتكرر. وهكذا، على الضد من إجراءات الحلفاء الصارمة، جاء النظام الالماني الغربي الجديد ليصدر قوانين العفو في 1949 و1954 مقلّصاً عدد المشتبه بأنهم مجرمو حرب ومرشحون للمحاكمة. وذهبت السياسة هذه بعيداً فأتاحت للكثيرين من المجرمين أن ينجوا من العقاب، كما مهّدت الطريق أمام نازيٍ ككورت جورج كايسنجر ان يصبح، بعد عقدين على الحرب، مستشاراً لالمانيا الفيدرالية. وكايسنجر هذا ذو تاريخ لا يحيّر المجتهدين فيه: فهو انضم في شبابه الى الحزب النازي، وإبان الحرب عمل نائب رئيس قسم الدعاية في الاذاعة التابع لوزارة الخارجية. لكنه، مع هذا، فاز في 1949 بمقعد نيابي في البوندستاغ عن حزب اديناور، الاتحاد المسيحي الديموقراطي، ومذاك راح يترقى في العمل البرلماني والحكومي، مستجيباً للحرب الباردة بسياسات بالغة التشدد والصقرية، الى ان حل عام 1966 في المستشارية. وسلوك كهذا قابل، بالطبع، للنقاش أخلاقياً، لكنه سياسياً أنشأ نوعاً من الوحدة حول الدولة الجديدة وزعيمها أديناور، ولم يُسء الى بناء الديموقراطية ولا الى التحالف الوطيد مع البلدان الغربية فيما ضعفت كثيراً مشاعر اللاسامية في المانيا. كاتب ومعلّق لبناني.