سادت الأوضاع اللبنانية والعلاقات اللبنانية - السورية تغيرات درامية في الأسبوعين الماضيين، فاستمر التحرك الشعبي الغاضب الذي كان مكبوتاً والذي انفجر مع اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، واستقالت حكومة عمر كرامي في جلسة برلمانية عاصفة مكرسة لحيثيات اغتيال الرئيس الحريري، وأعلن الرئيس السوري بشار الأسد نيته سحب قواته الموجودة في لبنان منذ نحو 30 عاماً إلى سهل البقاع في شرق لبنان ومن ثم جدولة الانسحاب إلى "منطقة الحدود" اللبنانية السورية. ولا شك في أن هناك خسائر: فالناتج المحلي تأثر سلباً بأيام الإغلاق وتدنى مستوى النشاط بنحو مئة مليون دولار، كما ألغيت اكثر من 60 في المئة من حجوزات السياح الآتين إلى لبنان، وتضررت بعض الفنادق القريبة من موقع اغتيال الرئيس الحريري في بيروت. لكن هذه الخسائر ما زالت محدودة على رغم التضخيم الذي تعرضت له في بعض وسائل الإعلام. ويجب أن نضيف إلى ذلك تباطؤ العمل بورش البناء بسبب مغادرة العديد من العمال السوريين العاملين لتخوفهم من اتساع ردود الفعل التي برزت ضدهم في الأيام الأولى التي تلت اغتيال الرئيس الحريري. والوضع مماثل في القطاع الزراعي، كما شهدت بعض القطاعات الأخرى تباطؤاً في نشاطها: التجارة، الصناعة، النقل، العقارات. وترددت أنباء عن تخوف مودعين سوريين في الجهاز المصرفي اللبناني بحجة تمادي الإساءات إلى مواطنين سوريين في لبنان، ووجود نيات لديهم بسحب ودائعهم من الجهاز المصرفي اللبناني وذلك كتدبير تأديبي أيضاً. هذا مع العلم أن تقديرات حصة هذه الودائع تتراوح بين 10 في المئة و33 في المئة من مجمل الودائع في لبنان. لكن ذلك لم يترجم إلى أفعال. ذلك أن الودائع السورية في الجهاز المصرفي اللبناني، مهما كان مصدرها، لن تجد نظاماً مصرفياً يحميها من حيث السرية المصرفية وغيرها من المزايا كالنظام اللبناني. وقد ثبتت المناعة المؤسسية للنظام المصرفي اللبناني إبان الاجتياح الإسرائيلي في مطلع الثمانينات، حيث لم يكشف أي حساب من حسابات المنظمات الفلسطينية، باستثناء بعض الاختراقات الاستخبارية التي يمكن أن تحدث أينما كان. لذلك فالتحويلات المالية إلى خارج لبنان بقيت حتى نهاية الأسبوع الماضي محدودة جداً. وحركة التحويل من الليرة اللبنانية إلى الدولار خلال الأسابيع الثلاثة التي تلت اغتيال الرئيس الحريري بحسب تقدير المصادر المصرفية تراوحت بين 2.3 و2.5 بليون دولار، أي اقل من 20 في المئة من احتياطي مصرف لبنان من القطع الأجنبي، ما دفع المصارف إلى رفع الفائدة على الودائع بالليرة اللبنانية إلى 10 في المئة ثم إلى 11.5 في المئة. وسيرفع ذلك من كلفة التسليف والإنتاج. ماذا يمكن أن نستنتج من كل ذلك: أضرار اقتصادية لا تزال محدودة، حذر وترقب على المدى القصير، تخوف من استمرار التدهور الأمني واتساعه وانعكاس ذلك على الاقتصاد. وعلى المدى الطويل هناك دواع للاطمئنان للأسباب التالية: التفاف شبه إجماعي على طروحات استعادة السيادة والاستقلال والحرية، دعم الجيش اللبناني للاستقرار والحريات العامة، دعم عربي شبه إجماعي لاستعادة لبنان سيادته واستقلال بعد تأخر ذلك لمدة 13 سنة، دعم دولي شديد لذلك، وتوقع انتخابات حرة ونزيهة تنبثق منها حكومة وفاق وطني فعلية تقوم أيضاً بالإصلاح الإداري والاقتصادي اللازمين. توقع دعم اقتصادي ومالي لهذه الحكومة من الأسرة العربية ومن المجتمع الدولي لنهضة لبنان بعد استعادته سيادته وحريته وقراره الحر. كما أن بعض الأوساط المالية الغربية الخاصة كشركة ميريل لينش المالية قد عدلت نصائحها لزبائنها باتجاه تشجيعهم على شراء السندات اللبنانية. لكن لا تزال هناك أسباب للقلق على المدى القصير لأسباب عدة أهمها: غموض حيثيات إعادة تمركز القوات السورية في البقاع وانسحابها من الأراضي اللبنانية بعد ذلك، والتهديدات المبطنة التي تطلقها جهات سورية وجهات لبنانية موالية للحكم في دمشق، وأخيراً الأحداث المخلة بالأمن التي شهدتها أحياء عدة في بيروت وفي طرابلس وعكار وغيرها من مناطق الجنوب والبقاع. من سينتصر؟ العقل والسلام والمصالح السورية الحقيقية التي تلتقي مع المصالح اللبنانية الحقيقية؟ أم المصالح الضيقة المرتبطة بزمن قد ولى؟