قد يعجب المرء لعدم عرض كتاب هنري كيسينجر"سنوات التجديد"رغم صدور ثلاث طبعات منه بالانكليزية والاستعداد لاصدار ترجمته العربية عن"دار عبيكان"في الرياض. وما يزيد العجب ان الكتاب يحتوي فصولا عدة عن الشرق الأوسط والسلام العربي - الاسرائيلي، فضلاً عن معالجة قضايا في منتهى الأهمية مثل علاقات الشرق بالغرب، والهجرة اليهودية الى اسرائيل، والعلاقات مع الصين، وقضية الأكراد، وسقوط فيتنام، والتغلغل الشيوعي في افريقيا... وغيرها من المواضيع السياسية المهمة التي تعتبر مرجعاً لكل مهتم بالشؤون السياسية. الكتاب مجلد حقيقي جامع. والمؤلف لا يحتاج الى تعريف. فقد كان مسؤولاً كبيراً في ثلاث ادارات اميركية مهمة، بدءاً من ادارة نيكسون الذي شهد سقوطها وكانت تربطه صلات وثيقة برئيسها الذي كان، بدوره، مولعاً بالسياسة الخارجية. يتضمن الكتاب تحليلاً للاوضاع السياسية والمكتبية البيروقراطية داخل حرم الادارة الاميركية وكيفية معالجة كل رئيس للمشكلات الداخلية لا سيما علاقته بالكونغرس والمشكلات الدولية البالغة الأهمية كالخروج من فيتنام، وتحجيم كمبوديا والانفتاح على الاتحاد السوفياتي السابق. لم يفت كيسينجر ان يتحدث مطولاً عن كاسترو، ومحاولة الانفتاح على كوبا التي لم تُصب نجاحاً كبيراً، كما لم يُفته ان يتحدث عن أليندي، وان كانت آراؤه حياله تتضمن بعض الإجحاف. أما الانفتاح على الاتحاد السوفياتي، فيتناوله المؤلف بكثير من التفاصيل ويحلل شخصية بريجنيف، وكيف تم الوصول الى"الانفراج". ولم يفته بالطبع ان يتحدث بالتفصيل عن صفقة القمح للاتحاد السوفياتي السابق، ومنحه مزية"الدولة الأولى بالرعاية"، فضلاً عن تحليل بعض الشخصيات الروسية البارزة، لا سيما وزير الخارجية غروميكو، والسفير الروسي الى واشنطن دوبرينين، حيث كان لتفاهمهما دور في تحقيق ما بات يُعرف في السياسة الدولية، في ما بعد، ب"الانفراج". الكتاب"مجلد"بكل معنى الكلمة من حيث تناوله جملة من القضايا الدولية الشائكة في تلك المرحلة، والتي استمرت قرابة عشر سنوات. فهو قد يتحدث عن مشكلة قبرص ويحللها مطولاً، كما يتحدث عن الصين، وكيفية الانفتاح عليها، مع تهدئة الاتحاد السوفياتي في الوقت نفسه. ولم يفته بالطبع ان يحلل بعض الشخصيات الصينية البارزة، وأوضاع التراتبية السياسية فيها. كما لم يفته التنويه بحجم التخوف الصيني وشكوك القيادة الصينية تجاه الاتحاد السوفياتي السابق وزعمائه. وقد تعهد الاميركيون بعدم الاعتراف بجمهورية الصين الوطنية تايوان مقابل تعهد الصين بعدم ضم تايوان بالإكراه، بل عن طريق استفتاء شعبي. كذلك احتلت كمبوديا حيزاً مهماً في تناوله لقضايا جنوب شرق آسيا. ومن الطبيعي ان تمثل فيتنام حيزاً واسعاً جداً في متابعته، بل مشاركته في ايجاد حل معقول لهذه المشكلة التي كانت هاجس الشعب الاميركي. ولم يخف كيسينجر تأييد الصين الضمني لحل هذه المشكلة سلمياً وان تبقى بعيدة عن التدخل السوفياتي هناك. من الطبيعي ان تحتل مشكلة الشرق الأوسط، ولا سيما بعد حرب 1967، اهتمام الادارة الاميركية. وقد لعب تشجيع الرئيس فورد له ومن بعده كارتر في جولاته المكوكية في الشرق الأوسط، والجهود الجبارة الديبلوماسية لاقناع الطرفين، مصر واسرائيل، بإنهاء حال الحرب أولاً، مع ما رافق ذلك من مماحكات وصولاً الى معاهدة السلام. هذا الفصل غني بتحليل نفسيات كل من الرئيس السادات، وغولدا مائير واسحاق رابين. ولعل فهمه العميق لهذه الشخصيات ساعده على تحليل كثير من المصاعب. وهو لم يتهم السادات بالوصول الى حل بأي ثمن، بل انه كان يريد في البداية ابعاد القوات الاسرائيلية أبعد ما يمكن عن المناطق الحساسة، أي ابعادها الى اعماق الصحراء. كما امتدح شخصية رابين"المتفهمة"، ورفض مقابلة شارون بطل الدفرسوار حتى لا يثير مشاعر الغضب لدى المصريين. وقد وصف غولدا مائير بقوة الشخصية والعناد. وكيسينجر كان يتفهم أوضاع اسرائيل الداخلية، ولذلك كان يلجأ الى رابين ودايان وكلاهما صقر وعسكري، لاقناعهما بتليين مواقفها. ومع الرئيس الأسد كان له صولات وجولات. وكان الأسد يريد الانسحاب الكامل، لكن كيسينجر اقنعه بأن الانسحاب الكامل يعني معاهدة سلام. ولم يكن الأسد مستعداً لذلك. كما لم يكن يتوقع ان يذهب السادات الى اسرائيل. كل ما استطاع ان يتوصل اليه الأسد،أو كان من الممكن ان يحصل عليه، هو ان يسترجع أكبر جزء ممكن من الأراضي السورية، وفي طليعتها القنيطرة ذات القيمة الرمزية، وهذا ما حصل بالفعل عبر فصل القوات من جنسيات مختلفة، دون التوصل الى معاهدة سلام التي لم يكن الأسد مستعداً لها، بمعنى ان يسير بعيداً وحده، كما سار السادات. ليعذرني القارئ اذا لم استطع ان أحيط بكل الموضوعات أو اكثرها، فنحن أمام مجلد من 1200 صفحة يتناول بعرض مفصل شؤون افريقيا الجنوبية، واميركا اللاتينية، والصين فضلاً عن تناوله بالتفصيل شؤوناً داخلية قد لا تعني كثيراً القارئ العربي العادي. كل ما استطيع ان أقوله ان الكتاب مرجع لكل كاتب أو باحث سياسي عربي، لا يمكن الاستغناء عنه. انه ليس للقارئ العادي. فكيسينجر، خريج هارفارد وحامل لقب"الدكتور"في العلوم السياسية، يكتب بأسلوب الباحث المطلع والاكاديمي ايضاً.