خلال دورة العام 1960، لمهرجان"كان"السينمائي، عرض فيلم ذو عنوان بسيط جداً هو"المغامرة"... وكان مخرج الفيلم معروفاً بصفته واحداً من كبار مبدعي السينما الايطالية ومن ابرز السينمائيين في اوروبا. والمخرج هو مايكل انجلو انطونيوني، الذي كان يعتبر في ذلك الحين، واحداً من الذين يصنعون السينما الايطالية الجديدة، الى جانب روسليني، ودي سيكا وفلليني وفيسكونتي. غير ان هذا كله لم يشفع لأنطونيوني يومها، اذ ما إن وصل عرض الفيلم الى منتصفه حتى بدا وكأن عصا ساحر ما، حركت المتفرجين ، مع انهم عادة عن علية القوم في عالم السينما ، فبدأ التثاؤب الظاهر والصاخب، وبدأ الصفير والصراخ، بل بدأت حتى الشتائم تنهال على الفيلم ومخرجه. طبعاً لم يكن ثمة في الفيلم ما يستدعي ذلك كله، ومع هذا من الصعب الآن ان نقول انه كان في الامر"مؤامرة"ما. المهم ان العرض انتهى وتواصل صخب الاحتجاج ضد هذا الفيلم، ليشارك فيه صحافيون ونقاد. وطوال تلك الليلة انصبت كل النقاشات في"كان"على الفيلم نفسه، ما اضطر المخرج الى الانكفاء حزيناً مصدوماً. اما عزاؤه فكان في اليوم التالي، وتحديداً حين تلقى رسالة وقعها سبعة وثلاثون من كبار السينمائيين في العالم، ومن بينهم المعلم الكبير روسليني، تمتدح الفيلم بكل قوة وتنتقد ضروب الازدراء التي كانت جابهته ليلة امس. والرسالة التي تلقاها انطونيوني، كانت في الوقت نفسه رسالة مفتوحة نشرتها الصحافة... والحقيقة ان تلك الرسالة لم تبدل فوراً، يومها، من نظرة عامة ألقيت على الفيلم وأطلقت عليه صفات خرقاء ملقبة مخرجه ب"انطونيوني الممل"... كل ما في الامر انها ساعدت المخرج على ان يرتاح الى ان فيلمه ليس بالسوء الذي كان يوحى به. وان كل ما عليه الآن هو ان يواصل عمله السينمائي في انتظار مزيد من الانصاف. والحقيقة ان الانصاف سرعان ما أتى، ومن طرف النقد الجاد، ومن لدن كبار النقاد السينمائيين في العالم كله. اذ في العام 1962، اجرى معهد الفيلم البريطاني استطلاعاً للرأي في اوساط ابرز النقاد والسينمائيين في العالم كله، اسفر عن تصنيف"المغامرة"ثانياً ، وراء"المواطن كين"لأورسون ويلز ، بصفته واحداً من اعظم الافلام في تاريخ الفن السابع. ومنذ ذلك الحين وهذا الفيلم يحتل مكانة مميزة بين اهم الافلام في كل استفتاء او استطلاع للرأي. وهو ما جرى فعلاً، حتى قبل عام ونصف العام حين اجرت مجلة"سايت اند ساوند"البريطانية استفتاء من جديد. في كل هذه الاستفتاءات اللاحقة، قد لا يحتل"المغامرة"دائماً مرتبة ثانية او ثالثة، لكنه حتماً يصنف بين افضل عشرة افلام... في وضعية تقول كم ان جمهور"كان"كان يومها على خطأ. واذ يشاهد"المغامرة"الآن... من المؤكد ان من يشاهده، وبصرف النظر عن تصنيفات النقاد واستطلاعات الرأي، سيدهش لذلك الموقف السلبي. فهذا الفيلم يبدو اليوم جميلاً، قوياً، مفعماً بالمعاني والدلالات... ناهيك بأن لغته السينمائية ، التي كانت جديدة في ذلك الحين ، هي نفسها اللغة التي ستسود السينما، او قطاعاً عريضاً من السينما، منذ ذلك الحين."المغامرة"صار من الكلاسيكيات الكبرى. بل في احيان كثيرة يصنف النقاد تاريخ بعض السينما ك"ما قبل المغامرة"و"ما بعد المغامرة". ومع هذا، فإن انطونيوني حين سئل ان يصنف فيلمه ايام عرضه الاولى، قال انه ليس اكثر من"فيلم بوليسي بالمقلوب"، مشيراً الى ان الفيلم لم يكشف، في نهايته، عن أي حل للغز اختفاء احدى الشخصيات الاساسية فيه، والى ان"الجريمة"التي يدور الفيلم من حولها، لم توضح دوافعها ولم يكشف مرتكبها... بل ان ليس ثمة ما يؤكد انه كانت ثمة جريمة في هذا الفيلم على الاطلاق. ثم: من قال ان هذا الفيلم يتحدث اصلاً عن جريمة؟ فيلم"المغامرة"يتحدث، اصلاً، عن العواطف وعن الحب وعن الاخفاق. اما اختفاء سيدة فيه، منذ بداياته، وانصراف جزء من احداث الفيلم الى البحث عنها، فليس سوى الذريعة الحديثة، التي تفرش الارض للحديث عما هو اعمق من ذلك بكثير. في معنى من المعاني يبدو"المغامرة"أشبه بتلك الدمى الروسية التي تحمل الواحدة منها في داخلها دمية اخرى، فثالثة وهكذا. ولعل كون الفيلم على هذا النحو، وكونه يسير بمتفرجه في دروب سرعان ما يجد المتفرج انها لا تفضي الى أي مكان ، مثل دروب الغابات التي يحدثنا عنها هايدغر في عنوان واحد من اجمل كتبه -، هو ما صعّب تلقيه بالنسبة الى جمهور كان يريد اموراً اكثر مباشرة، ويتوقع من الصورة ان تقول كل شيء فوراً. هنا في"المغامرة"لا يقال أي شيء بأي وضوح، بل يترك للمتفرج ان يشارك ويستنتج. فما للمتفرج العادي وهذا كله؟! موضوع"المغامرة"الحدثي يروي لنا اذاً، حكاية ساندرو المهندس المعماري الذي كان في مطلع شبابه صاحب احلام ثورية وتجديدية، غير ان سرعان ما ضحى بأحلامه وبموهبته من اجل الحصول على المال والعيش السهل. فراكم مالاً، وعاش حياته، ليقف ذات يوم مكتشفاً ان كل ما فعله وعاشه انما يتناقض مع حماسة الشباب التي كانت له اول الامر. اما ما يكشف له هذا، فهو علاقته العاطفية بآنا، سيدة المجتمع اللاهية التي لا يهمها شيء من مأساة ساندرو او من خيبته. اما احداث الفيلم فتبدأ مع رحلة بحرية في يخت، يقوم بها ساندرو مع آنا ونفر من اصدقائهما. واذ يصل اليخت الى جزيرة صغيرة مهجورة... تختفي آنا تماماً، واذ يشرع الاصدقاء في البحث عنها في طول الجزيرة وعرضها، لا يؤدي البحث الى أي نتيجة. وتتكاثر الاسئلة: أين اختفت السيدة؟ هل قتلت؟ هل انتحرت؟ هل غرقت؟ ويتحول الفيلم الى مسار يحاول الاجابة عن هذه الاسئلة. واذ يعود الاصدقاء الى حياتهم وأشغالهم في اليوم التالي، يبقى ساندرو في صقلية والجزيرة المهجورة تقع قربها ليتابع التحقيق والبحث... وتبقى معه كلاوديا، صديقة آنا لتشاركه جهوده. وهنا، يتحول الفيلم من جديد من حكاية اختفاء آنا، ومن حكاية خيبة ساندرو في حياته، الى حكاية حب، صامت ومتدرج، يقوم بين ساندرو وكلاوديا. بل ان حكاية الحب تهيمن بحيث ينسى العاشقان الجديدان، ويكاد المتفرج ينسى معهما، حكاية اختفاء آنا... بل ستبدو الامور وكأن آنا غير موجودة اصلاً. وتنقلنا هذه الحكاية الجديدة الى مستوى آخر ينتهي معه الفيلم: اذ في فندق فخم في صقلية يحدث لكلاوديا ان تكتشف وجود ساندرو بين ذراعي مومس: تغضب اول الامر، لكنها سرعان ما تصفح عنه، اذ تجده جالساً يبكي بدموع غزيرة على مقعد عام. جلي هنا ان تدرّج حكايات"المغامرة"يبدو هنا وكأنه يقترح علينا فيلماً متعدد القصص... ليس من رابط بين قصصه المتتالية، اذ يصعب في النظرة البرانية الى الفيلم ايجاد مبرر منطقي يقود من حكاية الى اخرى. بل ليس ثمة اصلاً ما يبرر نشوء حكاية حب بين ساندرو وكلاوديا على انقاض اختفاء آنا التي سينتهي الفيلم من دون اية اشارة الى مصيرها. والحال ان انطونيوني، حين سئل عن هذا اجاب:"أليست هكذا هي الحياة... اسئلة لا اجابات عنها؟". قبل ان يضيف ان ما كان يشغل باله وهو يحقق هذا الفيلم انما هو الهوة الواسعة التي باتت قائمة بين تقدم المجتمع ? العلمي خصوصاً ، وبين القيم الاخلاقية، مذكراً بأن ما اراد التعبير عنه انما هو ان"الانسان الحديث بات مسحوقاً تحت ربقة عواطف ليس من الممكن القول ان الزمن قد تجاوزها". وأنطونيوني المولود في فيراري في ايطاليا العام 1912، هو الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة، من بين كل الذين صنعوا ما سمي توافقاً"الواقعية الجديدة الايطالية". بل انه، على رغم شلله وبكمه وصمه، لا يزال يحقق افلاماً، طويلة او قصيرة، بين الحين والآخر، وكلما اتيح له ذلك. غير ان جهده السينمائي، الذي وفر له مساراً فنياً عالمياً، وجعله يعتبر ذات يوم واحداً من كبار مبدعي السينما، صار وراءه عبر افلام تحمل عناوين مثل:"مدونات حب"1950 و"بين النساء"1955 و"الصرخة"1957 و"الصحراء الحمراء"1964 - اول فيلم له بالألوان -، و"تكبير"1966 ، الذي اطلق سمعته العالمية ، و"زابريسكي بونيت"1970 و"المهنة - مخبر"1974 وصولاً الى"ما وراء الغيوم"1995... وجزء من فيلم"ايروس"2004 الذي شارك في تحقيقه مخرجون كثيرون.