يُنظّم متحف"مايول"الباريسي معرضاً لرائد حركة"الانفصال"النمسوية، الرسام غوستاف كليمت 1862-1918. ويُشكّل هذا المعرض من دون شك حدثاً فنياً لجمعه للمرة الأولى عشرات الرسوم التي نفّذها هذا الفنان حول موضوع الجسد، الأمر الذي يوفر فرصة فريدة لولوج عالمه الحميمي المثير. وفعلاً، أول شيء يستنتجه الزائر لدى تأمله هذه الرسوم الساحرة هو الاختلاف الظاهر بينها وبين لوحات الفنان الشهيرة عالمياً. فمقارنة بالأسلوب التزييني الذي يميّز هذه الأخيرة، تبدو رسوم كليمت كآثار عابرة منفّذة خلسة، تلعب دوراً مرافقاً للوحاته. لكن الحقيقة هي أن كليمت رسّام بالقلم قبل أي شيء، وإن لم يفكّر يوماً بعرض هذه الأعمال. فمعظم النقاد والفنانين الذين زاروا محترفه وشاهدوا رسومه الإعدادية اعتبروها أفضل إنتاجه الفني. وعلى خلاف لوحاته، يفلت كليمت في الرسم من إغراء اللون ويتفرّغ في بحثه للشكل، مما يقود إلى جوهر فنه. وتتحرر رسومه من النماذج الزخرفية المميّزة للوحاته والتي تنحل داخلها الوجوه والأشكال بفعل حبكتها المجرّدة، فتظهر هذه الأخيرة على حقيقتها، بكل تفاصيلها الأولية. والواضح في هذه الرسوم أيضاً قدرة كليمت على خلق مناخ استرخاء كامل ينسجم"الموديل"داخله لدرجة يخلد فيها إلى الملامسات الرقيقة، إذ نعثر على الكثير من الرسوم التي تمثّل فتيات مراهقات برقتهن. وهؤلاء يرسمن كليمت بعيونٍ مغلقة بواسطة خط دقيق لدرجة يتوارى فيها الجسد أحياناً في فراغ الورقة. ولا يشعر الرسام بالحاجة إلى إبراز الطابع الإروسي للمشهد، بل ينحصر تعبيره بخطٍّ أكثر سمكاً على مستوى حاجبَي الفتاة ينفصل فجأة تحت أنظارنا، كرسم داخل رسم آخر، ويشير ببراعة إلى الأحاسيس التي تتملّكها. وفي رسومه، يبدو كليمت أقرب من ذاته لأنه يعمل بلا قناع ولا جمهور. يرسم فقط لنفسه فيتحرر رسمه من أي قيدٍ أو تقليد ليتبع فقط الضرورة التي تأتي به. وهو بالتالي ترجمة آنية للصدمة الخلاقة التي يخضع لها الفنان. وتحدث هذه الصدمة لكليمت غالباً لدى مشاهدته موديله النسائي وأثناء عمله معه. وحين نعرف أنه كان قريباً جداً من هؤلاء الفتيات اللواتي كنّ يحلمن بالعمل معه، نفهم لماذا يشكّل الموضوع الإروسي المصدر الأساس لغنى عمله في مجال الرسم، اضافة إلى موضوع البورتريه الاجتماعي الذي عالجه في شكل محدود. وانطلاقاً من معرفته بقواعد الحشمة والرصانة، يمنح كليمت في لوحاته الملوّنة إمكان الترفّع فوق الواقع اليومي لموديلاته التي تبدو مثل ساحرات أو عذارى يتمتعن بجمالٍ لا تقدر أيدي الحياة على العبث به. وبالتالي يتم استبعاد الحياة بخلجاتها من واجهات هذه اللوحات الثمينة بالزخرفات والألوان الساطعة. أما في رسومه فتسمح الحرية المذهلة للخط المعتمد ببلوغ تمثيلٍ للرغبة لا يحتاج فيه الفنان إلى تبرير أجساد فتياته بشيء آخر سوى لغز الرغبة نفسها التي يختلط فيها الجسد والإروسية داخل مقصدٍ واحد. معلّمٌ في تصوير الجمال الطبيعي، يتحاشى كليمت في لوحاته تمثيل الطبقات النباتية المسترخية التي يستكشفها في عددٍ كبير من رسومه. وفي الوقت الذي يرصد ريشته لتحويل موديلاته إلى أيقونات حقيقية تذكّرنا بأعمال تعود إلى الفن البيزنطي، يتبع قلمه الغريزة لاستكشاف طيّاتها، كما يبدو ذلك جلياً في الرسوم المعروضة الآن. وتجدر الإشارة إلى أن حركة"الانفصال"التي كان كليمت أحد أركانها انطلقت عند بداية القرن العشرين في فيينا وأدخلت في أوروبا قطيعة بين ما كان مسموحاً في الفن وما لم يكن، من خلال إطلاق أفرادها العنان للاستيهامات التي يوحي بها الجسد، على رغم الرقابة الصارمة والطبيعة القمعية للحكم السائد آنذاك في الأمبرطورية النمسوية -الهنغارية. وجرأة هؤلاء الفنانين في الرسم هي التي ستؤّمن الظروف لانبثاق التيار التعبيري. لعل الإروسية التي يستحضرها كليمت هي إروسية المرأة التي تبحث عن ذاتها. إذ تبدو الأجساد الخاضعة لنظرة الرجل كأنها تتحوّل داخل شرنقة محبوكة بخط رقيق ومرن. الأمر الذي يضفي عليها سريرة حميمية. ومع أن الحركات تذكّرنا أحياناً ببعض الوضعيات الاستعرائية exhibitionniste، إلا أنها منزّهة من أي تلميح فاحش. وداخل هذا العالم المغلق، لا تملك الإرادة الذكورية صوتها الخاص، بل تدور في شكل خفي حول المرأة. ولعل هذا التحرر من تدخّل الرجل هو الذي يمنح أجساد نساء كليمت براءة شفيفة. وبالفعل، يبدو التحوّل الأخير الذي يكشفه لنا هذا العالم الإروسي مخصصاً لحوار المرأة مع ذاتها. وعلى خلاف قول بودلير الشهير:"أنا الجرح والسكين"، يتمتع المشاهد بحوار رقيق وبلا جروح تقترب المرأة فيه من جسدها وكأنها ترغب في دَوزنة آلة موسيقية.