حطت"قافلة"فاطمة المرنيسي في بوادي البحرين العريقة في المحرق، عاصمة الثقافة قديماً والتي تستعيد بعضاً من مباهجها بهمة الكاتبة مي آل خليفة التي دأبت منذ ثلاثة أعوام على تنظيم لقاءات فكرية مع نخبة من المثقفين والمثقفات العرب في مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة، مجلس جدها الشاعر الذي استعادت ذاكرته من مصدر حديث. حطت"قافلة"فاطمة المرنيسي وكنت أسأل نفسي: ترى ما الذي تحمله لنا من جديد، هذه التي عملت على التغيير، فبدأت بالأبحاث النسوية، ثم حادت عن الأبحاث الأكاديمية الصارمة شكلا ًوأسلوباً، منحازة إلى السيرة الروائية وهاجرة الكتابة عن النساء. ها هي اليوم، وعلى ما صرحت به في محاضرة لها ضمن الجولة تهجر الكتابة عن النساء وتتجه إلى المجتمع المدني بكل اعضائه نساء ورجالاً، شيوخاً وشباباً، إذ لا يمكن تحرير المرأة إذا لم يشعر الرجل بالعطش إلى الحرية، بخاصة أن النسويين في الخمسينات كانوا رجالاً في المغرب، فكان تحرر المرأة من فعل الرجال. ولا يمكن تصور مدى سرعة تغير أحوال النساء حين يتفانى في العمل لمصلحتها السياسيون ورجال الدين. فاطمة المرنيسي كأنها وهي في صومعتها طرقت بابها تكنولوجيات الاتصالات الحديثة، فشعرت من"غرفتها السوداء"بحضور المجتمع المدني الحيّ، فخرجت من نصوصها إلى الحياة التي تدبّ في أوصال المجتمع المغربي، باحثة عنه فيه. ها هي تلتقط إشارات من فاعلين اجتماعيين، مثل جميلة حسون صاحبة المكتبة في مراكش، الشابة التي تحمل أحلاماً كبيرة من أجل تطوير المجتمعات المغربية في المناطق الريفية والنائية، وتنوير عقول الشباب وإحياء قدراتهم المعرفية وتدعيمها. حلمت بتكوين"قافلة"تساعدها في مهمتها، هي التي كانت تذهب بمفردها إلى المناطق النائية لإيصال الكتاب إلى الشباب وفتح الحوارات معهم باحثة عن إمكانات حصول الشباب على المعلومات من خلال الكتب. ثم روى لها ياسين عدنان أستاذ اللغة الإنكليزية والشاعر تجربة جريدة"زوايا"الثقافية الألكترونية التي تصدر في بيروت، والتي تساهم فيها مجموعة من الشباب والشابات من بلدان عربية مختلفة حيث يتواصلون عبر الانترنيت، الفضاء الديموقراطي الجديد. ثم نادت نجية البودالي الأستاذة والباحثة في جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، ورئيسة مشروع"سنرجيا"الحضارية Synergie civique التآلف الحضاري، التي ترصد سبل الحوار الممكنة بين المرأة والدولة انطلاقاً من تجربة مثيرة عرفها المغرب مع"فاما"المشهورة بثورة الفاكس. حلمت جميلة حسّون، لكن فاطمة هي التي التقطت الحلم وبدأت في استنفار الفاعلين الاجتماعيين الآخرين. هكذا انضم إلى القافلة أصحاب مشاريع أخرى، مثل أحمد زينبي رئيس جمعية وادي درعة للتنمية المسؤول عن برنامج الحد من ظاهرة التصحر في واحة درعة، والمهتم بمجال فض النزاعات. وانضم إلى القافلة نور الدين السعودي أستاذ وباحث ومعتقل سياسي سابق ومدافع عن فاعلية الحوار كسلاح ضد العنف، وزينب عبدالرازق الناقدة الفنية التي تعنى بكتب الأطفال، ورشيد الشرايبي مدير منشورات مرسم الذي يساعد في إعداد نصوص ورش الكتابة وطباعتها في كتب وتوزيعها. ومن معالم هذه"القافلة"المميزة وجود فنانتين تشكيليتين أميتين، انطلقتا من حياكة السجاد"الزرابية"إلى اللوحة والتشكيل وهما ركراكية بن حيلة وفاطمة ملال. تستخلص فاطمة المرنيسي أن المجتمع المدني هو الذي يطور العقول، وتؤكد أن الرجال والنساء لا يتخاصمون فيه بل يتشاركون هل يمكننا فعلاً الوثوق بهذا التعميم؟. أما الإطار الفكري لعمل هذه"القافلة"، فيقوم على مفهوم الحوار. ففاطمة تهجس بالحوار بعد أن نشأت في أسرة مطلبها الأساس"اسكتي.. اسكتي"، كما كانت تقول لها أمها. وتهجس بالحدود، هي التي تربت على أن سعادتها تكمن في عدم خروجها عن الحدود. وفي تبنيها الحوار وخرق الحدود اتكأت على الإسلام الذي مثل لها ثقافة، إذ استند الإسلام على الكتاب، فبث مبادئ اشتركت فيها مجتمعات من طنجة إلى جاكرتا، فالتكنولوجيا هي التي تحدد الثقافة التي تخلقها"والإسلام هو رسالة حوار بين الشعوب. لذلك رفعت المرنيسي كشعار لرحلة القافلة إلى البحرين"ادفع بالتي هي أحسن"مستقية هذا الشعار من الآية الكريمة التي تقول:"ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". وتشير في هذا المجال الى ان الجاحظ شخص استراتيجية الحضارة العباسية في الأدب، لذلك ترجم العباسيون لغة العدو، الفارسية أو الهندية فأضافوا عقل الآخر الى عقولهم. هنا توقفت أمام تجربة سندباد وتجربة الكاوبوي، واستنتجت أن الكاوبوي يمتلك الأرض التي يقيم عليها، بينما سندباد كان تاجراً مغامراً يخوض العوالم الأخرى خارقاً حدوده فهو يريد التجارة والبيع والشراء وجني الأموال، لذلك أتقن فن الحوار مع الآخر. ثم اشارت الى ان العرب تاريخياً قد تواصلوا مع الشعوب الأخرى من طريق الملاحة والتجارة، كما حصل في البحرين ومناطق أخرى."أما أنا، فانني من بحر الظلمات"حيث تعذر التواصل مع الآخر، كما تعذر التواصل بين أجزاء البلد. ففي البادية مثلاً لم يرَ سكانها في حياتهم طبيباً، محامياً أو شرطياً! سابقاً لم يكن لنا حق التجول في المغرب، فلكي ازور منطقة غير التي اقطنها وكباحثة كان علي الحصول علىّ إذن من الشرطة. وحين تكونت الجامعة العربية 1945 فإن علال الفاسي القومي المغربي كان مصراً على دخولنا إليها على رغم ممانعة بعضهم بحجة إننا بربر، ولولا إصراره لما دخلنا إليها. ان الطبيعة ممانعة للحوار ونظرتنا إلى الغريب خطيرة. لقد تنعمنا في المغرب بديموقراطية الحق في التواصل حيث انتشرت مقاهي الانترنيت ومعها تغير الكثير من الأمور، واهمها ان اللغات الأجنبية لم تعد حكراً على المثقفين. ومع بدء الاستثمار في الأقمار الاصطناعية انقلبت اللعبة، فمنتج المعلومات لم يعد هو الأقوى بل المستهلك هو المتحكم بها. لذلك فإن المرنيسي تراهن على الأقمار الاصطناعية التي ستعيد إحياء سندباد الجوال والمحاور، كما تراهن على"القوافل"المدنية. يبقى أن الحوار حرفة تتطلب إتقان المهارات واكتساب الآليات. أما ياسين عدنان فأوضح أن هذه"القافلة"تتوجه للمرة الأولى إلى بلد عربي، محدداً أنها لا تتبع أية جهة سياسية أو مؤسسة رسمية وهي بعيدة عن التوافقات السياسية التي تحصل في المؤسسات الثقافية. ولا تستفيد من أي تمويل محلي، عربي أو أجنبي. وأعضاء"القافلة"ناشطون في ميادين الثقافة والمرأة وحقوق الإنسان والتنمية المحلية. "القافلة"هي مجال حيوي لتدعيم الثقة بالنفس كما أكدت المرنيسي في نهاية اللقاء، فأهم شيء هو الكرامة" أنا أواجه العنف الداخلي والعنف الخارجي الغربي. وأهم شيء في الحياة هو الكرامة والثقة بالذات وذاكرة الوطن". السندباد لا يخاف الآخر بل يسافر ويبحث، ففي التواصل مع الآخرين غنى رمزي وروحي ومادي. هذه المرة تجسد سندباد بمجموعة خبرات متنوعة وليس ببطل واحد مغامر. وانضم الى"القافلة"من البحرين الفنان انس الشيخ من طريق إعداد أفلام قصيرة تعنى بالذاكرة. واختتمت فاعليات اللقاء بأمسية شعرية موسيقية للشاعر قاسم حداد"أيقظتني الساحرة"وصاحبه على البيانو ابنه محمد حداد.