عندما عرفت أن تصفيات لجنة تحكيم ملتقى القاهرة للإبداع الروائي الثالث - ويرأسها إدوار الخراط - انحصرت في النهاية ما بين الطيب صالح وإبراهيم الكوني, وأعادت التصويت على مَنْ تختار منهما أكثر من مرة ليكون الفائز الوحيد, قلت في نفسي: كلاهما جدير بالجائزة, وغيرهما أيضاً جدير بالجائزة, فنحن نعيش في زمن الرواية, والطيب صالح لا يفترق عن إبراهيم الكوني من حيث جدارة الاستحقاق, فالأول دوره في الريادة معروف, وكشوفه في الأفق الروائي لا يزال لها تأثيرها المتواصل عبر الأجيال, وإسهامه في توسيع دوائر تلقي الرواية العربية على امتداد الكرة الأرضية لا يقل أهمية عن غوصه العميق في ميراثه الحضاري الذي لا يزال كامناً في أعماق الأبطال الذين اختارهم والذين تحوّلوا إلى رموز وأنماط لم تفقد حيويتها أو طاقتها على توليد المعاني المتجددة. وإبراهيم الكوني صاحب مشروع روائي فريد, ينطوي على جذريته الخاصة التي تتأسس برؤيا عالم فريدة لا فواصل فيها أو حدود بين أقطار الروح والجسد, أو الظاهر والباطن, أو البشر والأرواح الحارسة أو الجن المحيطة, وذلك في كون عجيب من التحولات التي لا تكف عن الحركة. وروايات الكوني روايات حضور في الوجود من هذا المنظور, أو روايات وجود يبحث عن حضوره المائز الذي يتحقق كالحلم المستحيل, وذلك في المنطقة التي يمتزج فيها الوعي باللاوعي, والواقع بالأسطورة. أقصد إلى الامتزاج الذي يجعل من الأسطورة واقعاً والواقع أسطورة. ويتمحور هذا الكون العجيب حول الصحراء, فروايات الكوني محدودة بحدودها -الصحراء الكبرى - ولكنها في دوائرها المكانية المحصورة, وبواسطة فاعلية الخيال الخلاق تجعل من الصحراء مرآة للكون كله, ومن كائناتها تجليات لمطلقات تتحول إلى ثوابت في إبداعات الكوني المغرمة دائماً بصور الدائرة التي تنبثق الحياة من مركزها لتعود إليها, في رحلة تنوس بين العدم والوجود, الموت والميلاد, الانبثاق من الأرض - الأم الكبرى - والعودة إليها كما تعود النسمة إلى بارئها لتنبعث فتية بحضور الوجود. ويجمع التصوف ما بين الطيب صالح وإبراهيم الكوني, ولكنه ينداح في كتابة هذا وذاك مضفوراً بعناصر إبداعية مغايرة, عناصر تشد الرمز إلىالأسطورة المتكررة للوجود الممزق بين عدمه ووجوده في روايات الكوني, غير بعيدة عن التجريد الذي لا يخلو من صفات المحسوس, أو يتجسد بها في موازيات رامزة إلى المبادئ الثابتة في صحراء هي مرآة للوجود في لا نهائيته, وذلك مقابل العناصر المغايرة التي تدفع بنا إلى دفق الحياة العاصفة التي عاشها مصطفى سعيد, أو الحياة التي أراد راوي"موسم الهجرة إلى الشمال"أن يحياها، لأن ثمة أناساً قليلين يحب أن يبقى معهم أطول وقت ممكن, ولأن عليه واجبات يجب أن يؤديها, غير عابئ إن كان للحياة معنى أو لا معنى لها, فالمهم أن يحياها, وأن يحضر فيها عنصراً فاعلاً يحقق اكتمال دائرة وجوده الإنساني الذي لا معنى خارجه. وليس هذا البعد غريباً تماماً عن عالم الكوني الذي يعاني بطله في اكتشاف الحقيقة المطلقة التي يدركها في فعل الوجود الخلاق للحضور الصحراوي, بعيداً عن الأنظمة المفروضة من خارج هذا الحضور, أو العقائد المغلقة, وحيداً في الصحراء الذي يغدو فيها التوحد مجالاً للكشف, والارتحال فضاء للوصول, وكائنات الصحراء علامات وإشارات تجتلي فيها الذات حضورها الذي لا اكتمال له بعيداً عن هذه الصحراء التي كشفت لمحبيها عن لحظات من النشوة الروحية الغامرة, النشوة التي هي قرارة الوصول إلى عمق أعماق مركز الدائرة التي تحتوي كل الدوائر. و"الآخر"له حضوره الذي يصل ما بين كتابات الطيب صالح الذي لا يفارق بطله عالم القرية المحاطة بالنهر, وكتابات إبراهيم الكوني التي لا تفارق صحراءه التي تبدو نقيض النهر. إن"الآخر"هو العدو القادم من خارج الدائرة في العالمين, هو الشر القادم من أقاصي الجنوب, حيث المدن النائية التي ترسل رسلها لإفساد البراءة والبكارة في الدوائر الروحية والطقسية لحياة الصحراء في قصص الكوني. و"الآخر"هو الشر المقابل, لكن القادم من الشمال, ماضياً عكس اتجاه النهر الذي يبدأ من منابعه في الجنوب, منطلقاً إلى أقصى الشمال, حيث البحر الذي يقع المستعمر على ضفته الأخرى, مرتحلاً منها إلى الجنوب في حركة هي نقيض الخصب, قرينة الجدب, والوهج الزائف الذي يلتبس بالهوية كي يمنحها ثوباً مستعاراً, بواسطة آليات من القمع المنظور وغير المنظور, المباشر وغير المباشر, العنيف والمراوغ في رقّته كأوراق الوردة السامة. وإذا كان الحضور لا يكتمل في صحراء الكوني إلا بتدبير المتوحد الذي يعود إلى الأصل الأنقى في مركز الدائرة, بعيداً عن السرديات المفروضة من أي مصدر كان, فإن الحضور لا يكتمل في قرية الطيب صالح وكل كتاباته تبدأ من قرية سودانية وتعود إليها في أصلها النيلي إلا باستعادة الهوية المقموعة, المرتبكة, والتحرر من الأقنعة الزائفة التي فرضها الآخر الأجنبي, المستعمر الإنكليزي بجنوده ولغته وثقافة هيمنته التي يعيد التابع إنتاجها. ولا يعني التحرر من الأقنعة انغلاق الوعي على نفسه في مدار مغلق, وإنما الانفتاح والتفاعل الذي يبقي على الهوية صحوتها النقدية, وذلك من خلال فعل المساءلة الذي لا يكف العقل النقدي عن القيام به, خصوصاً حين يجعل من نفسه ومن كل ما يقع في مداه الإدراكي موضوعاً للمساءلة التي مايزت بين الراوي ومصطفى سعيد في"موسم الهجرة"أو بين الراوي وشخصية"منسي"في السيرة الروائية الأخيرة. هذا الانقسام الذي تتميز به الأضداد أو الأشباه في اختلافها هو ما يباعد ويصل - في الوقت نفسه - بين ثنائية الراوي ومصطفى سعيد في"موسم الهجرة"ومارلو وكيرتز في رواية جوزيف كونراد"قلب الظلام"التي كتب الطيب صالح روايته معارضاً لها, ونقضاً لمغزاها الاستعماري من منظور وعيه المُعادي للاستعمار, والساعي إلى تفكيك حضوره ونقض هيمنته على مستوى الوعي. وقد سبق للطيب صالح أن كتب عن علاقة روايته برواية كونراد, وكيف أنه أراد أن ينقضها بعمل مواز, يحمل بعض عناصر المشابهة التي تلفت الانتباه إلى الأصل المنقوض, لكن ضمن سياق يقدم رؤية مخالفة, مضادة, هي رؤية التابع الذي يحرر وعيه من التبعية بفعل مساءلة جذرية, مساءلة تلجأ إلى شخصيات أشبه بمرايا وأقنعة تؤدي دوراً معرفياً يسهم في تحرير الوعي من أوهامه المتسلطة ذاتياً, أو المزروعة فيه بفعل قوة قاهرة ثقافياً أو معنوياً. ولذلك تبتعد رواية الطيب صالح عن"قلب الظلام"لتبحر صوب النور المتولد من وعي يسائل حضوره, وعي يعرف أين يوجد, في النقطة التي تتوسط ما بين الشمال والجنوب, داخل النهر الذي لا يكف عن التدفق, كما لا يكف الوعي عن صراعه الداخلي والخارجي ليكتمل له معنى الحضور في فعل المقاومة الأبدي الذي يبدو معه العالم في طفولة لا تنتهي. وأتصور أن الطيب صالح عندما أعلن عن معارضته بروايته"موسم الهجرة"رواية كونراد"قلب الظلام"- وهو الأمر الذي أصبح معروفاً بين دارسيه منذ أن أقره ونشره ونشر عنه - كان يؤكد اتجاهاً سائداً بين أبناء جيله, ابتداء من عبدالرحمن الشرقاوي وليس انتهاءً بصلاح عبدالصبور, فقد كتب الشرقاوي - على سبيل المثال - روايته"الأرض"في مطالع الخمسينات في فعل من أفعال المعارضة الموازية لرواية"فونتمارا"للكاتب الإيطالي سيلونه, كما كتب صلاح عبدالصبور قصيدته"الملك لك"في الخمسينات نفسها في فعل من أفعال المعارضة النقضية لقصيدة إليوت الشهيرة"الرجال الجوف"حيث يتكرر المقطع الشهير"لأن لك الملك"- إن لم تخن الذاكرة. وكان القصد من معارضة الشرقاوي تقديم رؤية موازية لاستغلال الإقطاع لفقراء القرية ومحاولتهم التمرد على هذا الاستغلال. أما معارضة صلاح عبدالصبور فكان الهدف منها نقض رؤية إليوت الدينية المسيحية للعالم, وطرح رؤية بديلة لها, رؤية يقف الإنسان في مركزها بصفته الحضور الفاعل في الوجود الذي يبدأ منه وينتهي إليه, فله - وحده - أي الإنسان الذي ليس أجوف بحال من الأحوال - الملك في الوجود الذي يصنعه على عينه. وفي سياق هذا النوع من المعارضة النقضية, جاءت رواية الطيب صالح"موسم الهجرة"التي تبدأ من حيث انتهى كونراد, وتبحر في الاتجاه المناقض حيث النور المقبل من النبع الذي يغدو مصباًَ, كأنه مركز الدائرة التي لا يزال الكوني مفتوناً بها في رواياته. هل كنت أشعر بهذا كله وأنا أدعو الاثنين إلى مكتبي قبل ساعات قليلة من إعلان جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي, كي أبلغهما معاً بأن لجنة التحكيم حائرة بينهما, وأن الجائزة - أخيراً - لن تخرج عن واحد منهما؟ لا أعرف على وجه اليقين, لكن الذي أعرفه أن كليهما أعلن اعتزازه بزميله, وفرحته الصادقة لو تخطته الجائزة إلى قرينه. ولا أزال أذكر كلمات الطيب صالح: يسعدني أن يأخذها إبراهيم, وردَّ إبراهيم: بل أنا الذي أسعد لو أخذتها أنت، فلك الأستاذية والريادة. وظل كلاهما يتبادل التقدير والاحترام, وظللت أرقبهما, وأراهما كبيرين بحجم الإنجاز الذي حققاه, وجديرين بالقيمة التي يقترن بها كلاهما, خصوصاً من حيث هما كاتبان وإنسانان كبيران لا يعرفان كذب الصغار ولا تلاعب الأقزام, فتحية إلى الكوني الذي يسعى إلى أن يجعل من الصحراء كوناً لا حدود لغناه الفيزيقي والميتافيزيقي, الروحي والجسدي, وتحية إلى الطيب صالح الذي يظل طيباً وصالحاً بكل معنى الكلمة. وإذا كانت الجائزة ذهبت إلى الطيب بحكم الريادة، ففي"صحف إبراهيم"الآتية ما يضيف إلى القيمة التي تجعله جديراً بكل الجوائز المقبلة, شأنه شأن الكبار الذين تضيء بهم الحياة لأنهم ينقضون بحضورهم الظلام وأهله.