في لقاءاته الداخلية والخارجية يكثر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الحديث عن ضرورة التزام رئيس الحكومة الاسرائيلية ارييل شارون تنفيذ تفاهمات قمة شرم الشيخ واستئناف الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية لمعالجة القضايا الأمنية والاقتصادية العالقة. وكان أبو مازن التقى شارون مطلع شباط فبراير الماضي في منتجع شرم الشيخ واتفقا في حضور الرئيس حسني مبارك والملك عبدالله الثاني على استئناف الاتصالات واطلاق سراح 900 أسير فلسطيني، وعودة مبعدي أحداث كنيسة المهد في بيت لحم الى بيوتهم وقراهم، وانسحاب القوات الإسرائيلية من خمس مدن فلسطينية أريحا وطولكرم وقلقيلية ورام الله وبيت لحم وتسليمها الى السلطة الفلسطينية. وتعهد عباس بالمحافظة على وقف اطلاق النار وضبط الأمن في المدن بعد تسلمها ومنع تحولها الى مراكز انطلاق لأعمال تمس أمن اسرائيل والاسرائيليين. وطلب أبو مازن شخصياً، لاعتبارات وطنية، من شارون اطلاق سراح عدد من الكوادر بعضهم"ملطخة أياديهم بالدم اليهودي"حسب التعبير العنصري الإسرائيلي، وتلقى وعداً ايجابياً. وفي سياق تشجيع التوجه وترطيب الأجواء وتحسين العلاقات، بادرت مصر والأردن الى إعادة سفيريهما الى تل أبيب، وكانا غادرا قبل أربع سنوات إثر تصاعد أعمال القمع والتنكيل بالفلسطينيين. وبينت مجريات الأحداث منذ القمة أن شارون لم يقدر قيمة مبادرة مصر والأردن، ولم يلتزم بما تعهد به لرئيس السلطة، ولم ينفذ أركان المؤسسة الأمنية الانسحاب من المدن الخمس، وافتعلوا خلافاً حول مفهوم الانسحاب وحدود المدن، وصمت شارون على أركانه، وتمسك الجانب الإسرائيلي بالبقاء في محيط مدينة أريحا المصنفة أ، وأصر على بقاء حواجزه عند مداخلها، والتي تعيق حركة المواطنين وتوجه الاهانات لهم، وتفرض على الجميع، وضمنهم مرضى ومسنون وأطفال، البقاء ساعات تحت شمس الأغوار الحارقة. وتعثرت عملية الانسحاب من منطقة أريحا، وجرب الطرفان تجاوز الأزمة وانتقلا الى بحث الانسحاب من مدينة أخرى طولكرم ظناً أن الاتفاق حولها أسهل. وقبل أن يستكملا المحادثات نفذت سرايا"حركة الجهاد الإسلامي"، عملية تل أبيب، وبقي الوضع الميداني على ما كان عليه من دون تغيير يذكر. وبدلاً من تقدير موقف رئيس السلطة الذي دان العملية بشدة وأمر باعتقال من يقف خلفها وتقدير جهد أجهزة السلطة، خصوصاً جهد وزير الداخلية الجديد اللواء نصر يوسف في ملاحقة من وقف خلف العملية واعتقاله، قرر شارون من جانب واحد وقف الاتصالات، وأوقف تنفيذ الانسحاب من طولكرم، وكأنه كان ينتظر العملية ليبرر تراجعه عن التوجه ككل. وخاب ظن المتفائلين الذين انتخبوا عباس بأمل تخفيف معاناتهم وتذكروا كيف رفض شارون طلب"أبو مازن"فك أسر عرفات ومنحه حريته في التنقل والحركة. ويتساءل أنصار السلام ومؤيدو"أبو مازن"داخل السلطة وخارجها: هل قرر شارون إفشال"أبو مازن"في رئاسة السلطة كما أفشله في رئاسة الحكومة في عهد عرفات؟ وهل كان موقف شارون في شرم الشيخ مناورة ناجحة مكنته من قطف عودة سفيري مصر والأردن من دون مقابل، أم أنه يعيش حال صراع مع النفس ويواجه صعوبات داخلية في حزبه ومعسكره اليميني وداخل المؤسسة الأمنية تعطل قدرته على تنفيذ ما التزم به في"الشرم"؟ شخصياً، لست من أنصار التطير وتفسير المواقف من منطلق نظرية المؤامرة، وأرجح أن يكون شارون راغباً بتحريك عملية السلام تحت سقف خطة الانفصال وإعادة انتشار الجيش وسحب المستوطنين من القطاع، كما رسمها لا أكثر ولا أقل. ويسعى لتأمين أفضل الظروف الداخلية والخارجية لتنفيذها، ويعتبر الخطوة ضرورة لأمن اسرائيل الاستراتيجي وتمتين العلاقة بالحليف الأميركي. ويرى في عملية الاخلاء والانسحاب من القطاع، ذي الموقع الملتبس في اطار"أرض الميعاد"، خطوة تكتيكية ضرورية لتعطيل تنفيذ"خريطة الطريق"وتوسيع الاستيطان في الضفة وضم مساحات من أرضها لإسرائيل. وخبرته الطويلة تعلمه أن مساحة قطاع غزة الضيقة 360 كيلومتراً مربعاً فقط والكثافة السكانية فيه مليون وربع مليون انسان، وشحة موارده الطبيعية، تقلل من القيمة الاقتصادية والأمنية والعسكرية للاستمرار في احتلاله وتجعل الاستيطان مشروعاً خاسراً وبلا أي أفق استراتيجي. ويدرك شارون أنه لم يعد بإمكان اسرائيل في المدى المنظور وحتىالبعيد، تهجير الغزاويين الى صحراء سيناء وبلاد العرب الواسعة كما كان يفكر، ولا يزال يفكر معارضو خطة الانسحاب ممن تتلمذوا على يده في حزب"ليكود"وبقية أحزاب اليمين المتطرفة. ويعرف شارون أكثر من سواه أن الاستمرار في احتلال القطاع واستيطانه يعني الاستمرار في تقديم خسائر بشرية ومادية ومعنوية من دون فائدة تذكر، والانسحاب منه يقلص الخسائر ويريح علاقة اسرائيل مع الاصدقاء والحلفاء وفي اطار الأممالمتحدة. الى ذلك، يواجه شارون، على خلفية الصراع حول خطته، مشكلات حقيقية داخل حزبه ومع حلفائه بلغت حد تهديده بالقتل، علماً أنه كان بمثابة نبيهم الصادق ويعتبر نفسه المدافع الأمين عن مصالحهم في كل زمان. وتلقى في آخر اجتماع لمركز حزب"ليكود"مساء 3 آذار مارس الجاري صفعة قوية جديدة من كوادر رباهام على التطرف، بعد صفعة الاستفتاء التي تلقاها من القاعدة. قاطعوه مرات عدة، واتهموه بالارتداد عن مبادئ"ليكود"وبرنامجه والخضوع للإرهاب. وفي نهاية الاجتماع صوتوا لمصلحة اقتراح يلزمه استفتاء الشعب حول الخطة قبل تنفيذها. ويتابع"المتمردون"أعضاء"ليكود"في الكنيست نشاطهم لإفشال شارون ولا يكترثون اذا سقطت حكومته. ويحاول شارون جاهداً تجنب الفشل وتنفيذ خطته بأقل الخسائر، وتمرير موازنة السنة الجديدة وبقاء حكومته، ويتمنى أن ينجح وأن لا يضطر الى تجميد أو تأجيل تنفيذ الخطة تحت ضغط المستوطنين والمتمردين، أو تنفيذها تحت وابل من قذائف المدفعية والصواريخ كما حصل مع رئيس الحكومة السابق ايهود باراك عند الانسحاب من جنوبلبنان. ويسعى شارون قدر المستطاع الى التوفيق بين متناقضات يصعب جمعها على سطح واحد: تنفيذ قناعته الايديولوجية وخطته السياسية الأمنية، ارضاء للمتمردين في حزبه وفي معسكر اليمين، وتلبية رغبة حزب"العمل"شريكه في الحكم، في الاخلاء والانسحاب حسب اتفاق الشراكة، وأيضاً تلبية رغبة الرئيس جورج بوش واللجنة الدولية الرباعية، لتنسجم مع تطلعات السلطة ورئيسها عباس أن يتم الانسحاب بسرعة، وأن يكون شاملاً وليس إعادة انتشار، وأن لا يتم نقل المستوطنين المرحلين من القطاع الى الضفة الغربية على حساب الأرض والبشر والمصالح الفلسطينية العليا. اعتقد أن القراءة المتأنية لأزمة النظام السياسي في إسرائيل، كما أظهرتها خطة الانسحاب، تشير الى أن إعلان شارون اليومي عن تمسكه بخطة"الانفصال والانسحاب والاخلاء"وتصميمه على تنفيذها، يندرج في خانة الأمنيات. ولا أحد يستطيع الجزم بأن الخطة ستنفذ كاملة من ألفها الى يائها وحسب التوقيتات التي حددها شارون وصادقت عليها الحكومة. وأظن أن آخر ما يفكر به شارون هو صنع السلام مع الفلسطينيين واسترضاء الملوك والرؤساء العرب، وانجاح محمود عباس في قيادة شعبه على طريق السلام، وليس قلقاً بشأن إعادة بعض الحقوق لأصحابها الفلسطينيين حتى بحدود تفاهمات قمة شرم الشيخ. وتصويت الغالبية الساحقة من أعضاء"مركز ليكود"مطلع آذار الجاري لمصلحة مشروع قرار يدعو الى استفتاء شعبي قبل الشروع في تنفيذ الخطة، يؤشر الى حجم المشاكل التي تقف في طريق شارون. صحيح أن الخطة تحظى بدعم الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي وروسيا والأممالمتحدة، لكن الصحيح أيضاً أن هذا الدعم المهم لا يكفي لجعل تنفيذ كل مراحلها قدراً لا راد له. فالمعارضون في الجانبين كثر وليسوا ضعفاء، ولديهم القوى والوسائط، خصوصاً الجانب الاسرائيلي، اللازمة للتأثير في التنفيذ. ويبدو أنهم ماضون في تحدي شارون، وبلغ التحدي درجة إهانته في اجتماع ل"مركز ليكود"ونادوا بطرده من الجلسة. ويخطئ من يعتقد أن الرئيس بوش سيمارس ضغطاً جدياً على شارون للالتزام بما تعهد به في شرم الشيخ وما تضمنته"خريطة الطريق". والأرجح أن يمارس بوش ضغطه على"أبو مازن"ويتمنى عليه أن يصبر على شارون ويراعي ظرفه ويحاول مساعدته!.. وإذا كان نقاش الانسحاب من مدينة فلسطينية واحدة في الضفة الغربية استغرق أكثر من خمسة أسابيع، فالمؤكد ان الانسحاب من نابلس والخليل وجنين مؤجل الى اشعار آخر، ولن يتم قبل استكمال تنفيذ خطة الانفصال و"الانسحاب"من قطاع غزة. وأظن أن الناس في هذه المدن لن يروا الانسحاب قبل الانتخابات الإسرائيلية المقبلة التي يمكن أن تتم في موعد مبكر في عام 2006. وشارون هو الذي قال:"هنا ك أعضاء في كتلة ليكود يبدو أنهم نسوا كيف سقطت حكومة اسحق شامير وبنيامين نتانياهو، أريد أن اسأل من الذي تسبب بسقوط حكومات اليمين؟". وبديهي القول ان سقوطها يعني تأجيل كل شيء. وإذا كان شارون وأركانه لم يلبوا طلب الحكومة الأردنية اطلاق سراح عدد دزينتين من المعتقلين الأردنيين، فالمرجح أن يماطل في اطلاق سراح الدفعة الثانية من المعتقلين الفلسطينيين 400 التي اتفق عليها في شرم الشيخ، وقد تتفجر هذه المشكلة العويصة الثانية في وجه"أبو مازن"وتدفع"فتح"ثمنها في الانتخابات البلدية والتشريعية بعد أسابيع. وفي كل الحالات، لا أحد يضمن استمرار وقف اطلاق النار بعد انتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني في تموز يوليو المقبل. ويصعب تقدير نتائج وتفاعلات تنفيذ خطة الانفصال والانسحاب والاخلاء على الوضع في اسرائيل، وأيضاً على وضع النظام السياسي الفلسطيني، لا سيما العلاقة بين السلطة والمعارضة، خصوصاً إذا نفذ شارون خطته من جانب واحد وفازت قوى المعارضة الفلسطينية بغالبية المجالس البلدية أو حصلت على حصة كبيرة من مقاعد المجلس التشريعي. كاتب فلسطيني، رام الله.