جاء"ربيع الشعر"بارداً هذه السنة في باريس وسائر المدن والمناطق الفرنسية، لكن حرارة الشعر استطاعت ان تضفي الكثير من الدفء على الندوات والأمسيات واللقاءات التي دارت في المؤسسات والمقاهي والنوادي وسواها. وحمل هذا"الربيع"في دورته السابعة عنواناً لافتاً هو"عبّارو الذاكرة"وهؤلاء العبّارون الذين كانوا يقودون السفن قديماً عابرين بالمسافرين من ضفة الى أخرى هم الآن"شعراء ، كما يدل العنوان ، يعبرون الذاكرة منتقلين من الحاضر الى الماضي ومن الماضي الى الحاضر فالمستقبل. فالشعر مهما تجذر في أرض الماضي يظل من"اعمال"المستقبل، ومهما واجه الشعر من أزمات يبقى قادراً على اجتيازها من جراء ما يملك من قدرة على الاغواء والفتنة والسحر. الشعر العربي لم يغب هذه السنة عن"ربيع"الشعر الفرنسي، هذا الفصل الذي يختصر كلّ الفصول مخترقاً جدار الزمن، وكان بدر شاكر السياب، الشاعر العراقي الكبير"نجم"اللقاء الذي أحياه"خميس"معهد العالم العربي في العاشر من الجاري وشارك فيه الشاعر صلاح ستيتيه قارئاً قصيدة له جديدة ورفعها تحية الى السيّاب، شاعر العراق، الوطن الذي يجتاز الآن مرحلة مأسوية. وشارك في اللقاء أيضاً الشاعر والناقد العراقي كاظم جهاد وقرأ قصائد له ومختارات من شعر السيّاب ورافقته الممثلة باسكال سيميون قارئة بعض ترجمات السياب بالفرنسية. وقرأ الشاعر الفرنسي جاك لاكاريير بضع قصائد له ومختارات من الشعر اليوناني من ترجمته وقرأت كذلك الشاعرة اللبنانية الشابة ميرنا حنا مقيمة في باريس قصائد من ديوانها"أخبار من العدم المعكوس". وأضفى عزف العراقي فوزي العايدي على العود بعداً آخر على جوّ اللقاء، وقد صاحب القراءات بموسيقاه المحفوفة بالحنين الى الأرض الأولى. وان بدا اللقاء مختصراً هذه السنة على خلاف اللقاءات التي كان يحييها"معهد العالم العربي"سابقاً، جامعاً شعراء من البلدان العربية، فإنّ حضور السياب في الذكرى الأربعين لرحيله كان لطيفاً مع أن السيّاب يستحق الكثير من التكريم وقد نقلت قصائد عدة له الى الفرنسية وصدرت في كتابين: الأول انجزه ترجمة وتقديماً المستشرق أندريه ميكال دار سندباد، والثاني كان ثمرة جهد مشترك بين كاظم جهاد وصلاح ستيتية وصدر في طبعتين: الأولى عام 1981 والثانية عام 2001 دار فاتا مورغانا. لكن اللافت ان اللقاء حول السيّاب الذي نظمه الكاتب المغربي المعطي قبال، أُدرج في سياق"ربيع الشعر"ما طبعه بسمة خاصة. فربيع الشعر في فرنسا ليس مجرّد"تظاهرة"عابرة بل هو حدث فريد يمتد أسابيع ويحتفل به معظم المدن الفرنسية وتشارك فيه مؤسسات وصحف ونوادٍ ومقاه... اختار المهرجان هذه السنة رسمة تذكّر بزلزال تسونامي البحري ملصقاً له، ولكن على رأس الأمواج الهادرة وقف شاعر يحدّق في البعيد وفوقه طيور تحلق في السماء. كأن أمواج الزلزال العاتية لا تستطيع اغراق الشاعر، هذا القادر على تحدي القدر ومواجهة عواصف الطبيعة. ويشرح الشاعر جان بيار سيميون المدير الفني لمهرجان"الربيع"الشعار الذي اختير للدورة السابعة عبّارو الذاكرة قائلاً:"المقصود، في طريقة ما، أن"نعرب"الشعر في صيغة"الماضي الحاضر"، هذا الزمن الذي لا ينتمي الا الى الشعر والذي يعايش الأمس واليوم. كل شخص سيكون مدعواً الى اعادة قراءة شعراء العصر الغابر والعصر الحديث، وأن يعيد النظر في الأعمال المنسية ويكتشف، من خلال التحولات والانقطاعات المتوالية، العودة الأزلية للأشكال والرهانات الشعرية. شعراء اليوم، الذين هم بلا شك القراء الأكثر مثابرة لشعراء الأمس، مدعوون في شكل خاص الى ان يكونوا"عبّاري الذاكرة"، الشاهدين على قراءاتهم المؤسسة وعلى قرابتهم لأسلافهم". وانطلاقاً من مفهوم"عبور الذاكرة"أصدر المهرجان مختارات شعرية دار سيغرز عنوانها"تحولات ? مصنع صغير للشعر"وقد أنجزها اختياراً وتقديماً الشاعران برونو دوساي وجان بيار سيميون. والطريف في هذه"المختارات"انها تدمج الشعراء القدامى مع المحدثين في سعي واضح الى اعادة الاعتبار الى الأنواع الشعرية الكلاسيكية والى الأشكال التقليدية وهي كثيرة في تراث الشعر الفرنسي مثل: السونية، النشيد، القصيدة المرسومة، قصيدة الشعار، قصيدة القبر، قصيدة التطريز وسواها من الأنواع التي لا ترجمة عربية لها. وهكذا يحضر في المختارات شعراء قدامى مثل فرنسوا فيّون القرن الخامس عشر وبول فيرلين التاسع عشر وفيكتور سيغالين التاسع عشر وبودلير التاسع عشر وريتوبوف الثالث عشر ورونسار السادس عشر ورامبو التاسع عشر، وبونتوس دو تيار السادس عشر... وشعراء محدثون مثل أبو لينيرو بيار أوستر وجاك روبو وجان جوبير وروبير ساباتيه وزينو بيانو وسواهم. والمختارات بدت فعلاً نوعاً من"المصنع"الشعري الذي عمد الشعراء من خلاله الى"صنع"قصائد على منوال الأشكال القديمة والتراثية ولكن بروح جديدة ولغة حديثة. وان كان الشعر"نجم"البرامج الثقافية والأدبية خلال هذا"الربيع"الطويل والموزعة، في أماكن عدة، عامة وخاصة، فهو سيزور أيضاً المنازل والشقق. وقد ابتدع"المهرجان"صيغة جديدة هي"الشعر في الشقة"وتقضي هذه الصيغة أن يتنادى مثلاً سكان بناية ما الى احياء أمسية شعرية في احدى الشقق ويتكفل"المهرجان"مهمة ارسال الشعراء الى تلك اللقاءات الطريفة التي تدخل الشعر الى المنازل أو البيوت. قد تدل مثل هذه اللقاءات والندوات والبرامج على اصرار المهرجان الذي كان أسسه وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغ عام 1999 على احياء القراءة الشعرية ونشر القصائد في الأوساط الشعبية وعلى مواجهة"الأزمة"التي يعانيها الشعر في فرنسا وفي الكثير من البلدان. ولكن هل تستطيع مثل هذه التجربة أن تحاصر"أزمة"الشعر المتمثلة خصوصاً في انحسار قرائه يوماً تلو يوم؟ هل تستطيع أن تحفز المواطنين على قراءة الشعر وشراء الدواوين في زمن بات الشعر وقفاً على النخبة؟ يقول فرنسوا بودار مدير دار"اوبسيديان"الشعرية معلّقاً على حركة نشر الشعر قائلاً:"يُطبع من أي ديوان نحو 600 نسخة، وقد يبلغ العدد ألف نسخة لشاعر معروف. وخلال فترة أربع أو خمس سنوات لا يُباع من النسخ الا نصفها". هذا الكلام يدل فعلاً على حجم الأزمة التي يعانيها الشعر في فرنسا فيما تحقق الرواية ارقاماً مذهلة على مستوى النشر والمبيع. الشاعر أندريه فيلتير مدير سلسلة"شعر - غاليمار"يؤكد ان"الشعر لا يخضع للسوق التقليدية للكتاب، فالشعر يملك زمناً يحيا فيه حتى ليلامس الأبدية. ثمة ديوان يستطيع ان يتطلب عشرات السنين يبدأ مبيعه". ويضرب مثلاً على ذلك ديوان الشاعر أبو لينير"كحول"الذي بلغ مبيعه في طبعته الأولى عام 1921 قرابة المئتين والأربعين نسخة، فيما تخطى اليوم المليون وثلاثمئة ألف نسخة. وعلى رغم انحسار الاقبال على شراء الدواوين وقراءة الشعر، يؤكد النجاح الجماهيري الذي يحظى به"ربيع الشعراء"في باريسوفرنسا ان الشعر ما زال حاجة روحية وجمالية وأن رواجه لا يقتصر على المبيع بل يتخطاه نحو"الحضور"الوجداني الذي يتميّز الشعر به عن سائر الأنواع الأدبية. فالشعر أولاً وأخيراً هو حاجة روحية وجمالية وليس مادة للتسلية والترف، وهكذا يصعب عليه أن يكون مادة استهلاكية في سوق الكتاب.