من ولد اولاً، المجتمع الاستهلاكي ام الاعلان التجاري؟ سؤال قد يشبه السؤال عن اصل الدجاجة والبيضة لكنه يؤكد ترابط العاملين معاً. فالإعلان لا يعيش من دون استهلاك والمستهلك يستهلك اكثر بوجود الإعلان، ويكون استهلاكه عشوائياً. أي انه يستهلك ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه أيضاً في حياته اليومية. وهو، أي الإعلان، تطور في شكل ملحوظ ليواكب العصر، منتقلاً من مجرد معلومة إخبارية عن سلعة ما إلى صناعة قائمة بحد ذاتها، مرئية ومسموعة، تؤثر في المستهلك مباشرة من دون مواربة... وتنتهك خصوصيته أحياناً كثيرة. تاريخ إعلاني عريق نشأة الاعلان التجاري لا تعود الى عصر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية أخيراً، بل تستمد جذورها من تاريخ الشعوب القديمة منذ اكثر من ثلاثة آلاف عام، كما تذكر موسوعة"ابولو"العالمية. فالإعلان عن الوظائف الشاغرة كان معروفاً في المجتمعات اليونانية القديمة. كما ان ابن بطوطة يشير في رواية رحلاته إلى أنّ أهل الصين كانوا بارعين في فن التصوير، وكانوا يصوّرون الغرباء الذين يزورونهم ويعلقون صورهم على الجدران. فإذا ارتكب احدهم مخالفة، تعرف اليه الصينيون فوراً واسهموا في القبض عليه. أما العرب، فعرفوا الإعلان أيضاً منذ عصور الجاهلية حيث كان التجار يشجعون الزبائن على شراء بضائعهم في سوق عكاظ الذي يجمع كل التجار من بداية ذي القعدة إلى العشرين منه. ينشدون الشعر ويغّنون بصوت عال ميزات ما يعرضون. إلا أنّ ظهور الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر سرع في الازدهار الإعلاني الذي وصل إلى اوجه في مطلع القرن العشرين مع بروز الطباعة الملونة. نشأت وكالات الإعلان لتتوسط بين المعلن والمستهلك، وملأت المساحات الإعلانية الصحف والمجلات قبل أن تنتقل إلى الوسائل الإعلامية الأخرى وفي مقدمها السينما. أجبر الانتشار الإعلاني الكثير من الدول على إصدار قوانين تنظمه ابتداء من الخمسينات، خصوصاً متى تناول إعلانات مؤذية، مثل الإعلان عن السجائر الذي استلزم توافق 192 دولة، أعضاء في الهيئة الصحية العالمية، للتوقيع على معاهدة منع إعلان السجائر وفق دستور كل دولة. أضف إلى هذا، تخصيص مساحة ثلاثين في المئة من مساحة غلاف كل علبة سجائر للتحذير من مخاطر التدخين... وصولاً إلى اقتحام الإعلان أخيراً عالم الهواتف النقالة من دون رادع، مع محاولات خجولة للحد منه في بعض الدول العربية عبر تغريم المؤسسات التي تعلن عليه من دون إذن مسبق من صاحب الهاتف. فالإعلان يقتحم الخصوصية ويدق باب المستهلك من دون أي استئذان ليصل إليه مباشرة ويجعله يشعر انه يعنيه وحده دون غيره، كما يقدم ميزة الاحتفاظ به للعودة إليه وفق الطلب. غسل الدماغ مع تطور العصر، بات الإعلان التجاري أحد معالم المجتمع الحديث الذي لا يمكن الاستغناء عنه. وهو يغري المستهلك بشراء السلعة التي يعلن عنها. ويقول الأطباء النفسيّون في هذا الشأن إنّ نمط السلوك الاستهلاكي لدى الفرد يتأصل لديه منذ الصغر ويتأثر بالكثير من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية وأهمها وسائل الإعلام المرئية التي تدفعه إلى الشراء العشوائي. وأظهرت دراسات علمية عدة أن اكثر من مئتي بليون دولار تنفق سنوياً في المجال الإعلاني لتكوين عادات شرائية خاطئة، تبدأ بالتشكيك في سلع قديمة أو تحمل هوية أخرى لدفع المستهلك إلى شراء الصنف المعلن عنه... وغالباً ما لا يكون في حاجة إليه. فيتم الشراء بدافع الفضول أو بسبب مسابقة ترافقه أو هدية تقدم معه. وأثبتت دراسة سعودية عن تأثير الإعلانات المتلفزة على الأطفال، أن هؤلاء يتأثرون مباشرة فيها. فلا يشترون سوى الصنف المعلن الذي يعجبهم، ويقبلون على أصناف دون أخرى وفق نوعية الإعلان عنها، كما يقلدون أطفال الدعاية عبر حركاتهم ورقصاتهم. وأدت وفرة هذه الإعلانات إلى توسيع السوق الاستهلاكي في شكل كبير، خصوصاً بعد ابتكار وسائل جديدة لجذب المستهلكين، اكان عبر تسهيل عمليات الشراء ونقل السلع الى مقر السكن ام العمل، ام الدفع بالبطاقات الالكترونية والتقسيط ومكافأة المشتري على سلوكه الاستهلاكي، مثل منحه هدية لدى تجميعه عدد من"النقاط الاستهلاكية". إعلانات"وفق الطلب" أما فعالية العملية الإعلانية في الشرق الأوسط، فلم تصبح عملية حقاً إلا بعدما تأقلمت لتلائم العقلية الشرقية ونمط الحياة العربي. فتخلت الإعلانات، لا سيما التلفزيونية منها، عن شكلها الغربي لترتدي حلة شرقية بامتياز وتحذو حذو التقاليد العربية الأساسية... حتى لو عملت على تطويرها بعض الشيء. تخلى الأب عن دوره الجامد والقاسي الذي كان يظهر فيه في الاعلانات القديمة ليتحول عصرياً، يلعب مع اولاده ويشاطرهم اهتماماتهم... فيكون جزءاً من تاريخ عائلته، خصوصاً انه المعني الاول بالاعلان نظراً الى انه من سيدفع ثمن السلعة. كما ان الاعلان لعب دوراً بارزاً في الثقافة الاجتماعية العربية جاعلاً المستهلك"يرى نفسه"من خلال السلعة التي تعرض عليه، بحيث تترجم شخصيته والقيم الاجتماعية التي ترمز اليها. فتدل ساعته او سيارته او حذاؤه الى هويته، وتجعل الآخرين ينظرون اليه من هذا المنطلق. لذا، تخطى الاستهلاك مفهوم الحاجة اليه، ليتحول الى قيمة رمزية يريد امتلاكها المستهلك. فيشتري ذلك الحذاء الرياضي لأن"جوردان"يملكه، او يشتري هذا النوع من السيارات لأن"شوماخر"يقود واحدة منه. ولم تكتف الصناعة الاعلانية بمحاولات جذب المستهلك بأي وسيلة اعلانية ممكنة، لا بل سعت الى تسهيل عمليات الشراء لإغرائه للإقدام عليها، خصوصاً ان ايقاع الحياة العصرية لم يعد يسمح له بأن يسعى وراء السلعة... لا بل أتت السلعة اليه مباشرة، حتى في منزله. وأتت البطاقات الالكترونية لتسهم في شكل مباشر في هذه العملية، جاعلة اياها في غاية السهولة. وبدت الأرقام في هذا الصدد ابرز دليل: 34.7 بليون دولار اميركي تصرف سنوياً في الشرق الاوسط بواسطة نوع واحد من هذه البطاقات التي سجلت زيادة في ارقام اعمالها بلغت 165 في المئة منذ العام 1998. خصوصاً انها شملت شراء الحاجيات اليومية، اكانت غذائية ام غيرها، بعدما كانت تقتصر في السابق على فئة اجتماعية محددة وعلى سلع"اللوكس". وتبدو المملكة العربية السعودية اكبر مستهلكة عبر هذه البطاقات، تليها الكويت ولبنان والامارات العربية فالأردن. وما زاد في انتشار هذه البطاقات تنوع الأسماء التي تحملها كما التسهيلات المغرية التي تقدمها. وتفرع الاستهلاك العصري نحو الانترنت حيث تتم اكثر فأكثر عمليات شراء عبر مواقع الاعلانية او حتى زوايا اعلانية تغزو المواقع الأخرى، وان كانت العملية بطيئة جداً في العالم العربي نسبة الى الغرب. فالعام 2001، سجل انفاقاً بلغ 95 مليون دولار عبر الانترنت، اي بارتفاع بلغت نسبته 9 في المئة من اساس 4 في المئة في العام 1998. من هنا، ازدهار السوق الاعلاني عبر الانترنت، حيث بلغت قيمة مبيعات احد المواقع الاعلانية فيه 224 مليون دولار العام الماضي وحده. فالإعلان لن يترك زاوية محتملة الا ويستغلها ليوصل السلعة الى المستهلك اينما كان وكيفما كان.