أدمن محمد دكروب منذ نصف قرن وأكثر معالجة الأدب والفن والسياسة وما يلتقي بذلك من وقائع وأفكار. وأدمن في طور كتابي لاحق تأمل سمات أصحاب الأفكار ورسم شخصياتهم. تطلع هذا المثقف العصامي الذي يدعو نفسه بپ"السمكري"الى جنس كتابي ملتبس، لا هو بالنقد الأدبي ولا هو بالسيرة الأدبية تماماً، انما هو لون يجمع الطرفين ويضيف اليهما ذكريات لا تنقصها السخرية. أشرف دكروب أخيراً على كتاب صدر في بيروت عنوانه:"الدكتور علي سعد: في الثقافة العربية - تيارات واعلام من لبنان والوطن العربي". استُهل الكتاب بمقدمة طويلة تعرّف بپ"الناقد الواقعي"، الذي رحل عام 1999، وتعطفه على مناخ فكري تجوّل فيه العراقي عبدالوهاب البياتي واللبناني حسين مروة والسوري سعيد حورانية، وغيرهم من الذين غادروا الأحياء واستقروا في الأرشيف الى الأبد. وعلى رغم تواتر الأزمنة، فإن دكروب لا يزال مشدوداً الى زمن رحل، يشهد على ذلك الناقد الذي جُمعت دراساته ونبرة التقديم الحانية، ويشهد على ذلك أولاً العنوان الذي أعطاه دكروب للكتاب. ففي عام 1955 أصدر المصريان محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس كتاباً نقدياً ذاع صيته عنوانه:"في الثقافة المصرية"، كتب مقدمته حسين مروة، بل كُتب جزء منه في بيروت، ونشر في مجلة"الثقافة الوطنية". كان الكتاب، الذي اتخذ من طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم خصوماً له، البيان الأدبي الواقعي الأشهر في ذاك الزمان. لم تكن دراسات علي سعد، التي أخذت عنواناً موازياً أكثر اتساعاً، الا امتداداً، أكثر تسامحاً ربما، لما قال به الناقدان المصريان، تقاسمت معهما بعضاً من السياق وبحثاً سجالياً يستقيم حيناً ويكبو حيناً آخر، ويظل في الحالين صادقاً. استقدم دكروب، في زمن الرضا القليل، أصداء الماضي أو استقدمته الأصداء اليها، معلناً، على طريقته، بأن بعض الوجوه لا يموت، وبأن الأموات يزاملون الأحياء في جميع الأزمنة. ولهذا جاء اسم يوسف ادريس في السطر الأول من"المقدمة"، من خلال رسالة تعود الى آخر الخمسينات الماضية، تتحدث عن بيروت الأصدقاء، وعن علي سعد الذي تُذكر نبرته"بأرغن معتّق تأتيك ألحانه من كنيسة ريفية بعيدة". تشكل مقدمة دكروب لكتاب"في الثقافة العربية"مرآة صافية لنهجه الكتابي، الذي ارتضى بقاعدة نقدية غريبة، يمكن أن تدعى بپ"الألفة المتسامحة"، تجمع بين الصداقة والقرابة الفكرية. كأن في دكروب ما يوعز اليه بالفصل بين الكتابة والكراهية، أو بالانفصال عن الكراهية انفصالاً كاملاً. ظهر هذا في كتابه"خمسة رواد يحاورون العصر"، الذي صدر قبل خمسة عشر عاماً، وتحدث عن لبنانيين أضاؤوا طريقه وطريق غيره: جبران خليل جبران، أمين الريحاني، مارون عبود، عمر فاخوري ورئيف خوري... من باب المحبة دخل الناقد، الذي لا يريد أن يكون ناقداً، الى عالم هؤلاء من باب المحبة، فرأى تنويرهم الفكري وأخلاقهم النيّرة، مبتعداً عن التعالم والمعايير المسطرية. لن يكون مارون عبود، والحالة هذه، الا لسان طبيعة انسانية خيّرة، مزجت بين القرية والمعرفة واشارات هامسة الى خير الآخرين. بعد عالم الرواد التنويريين توقف دكروب، في كتابه الأفضل"وجوه لا تموت"، أمام تنويريين في زمن آخر، اذ يوسف ادريس يغيب عن الحضور نصف ساعة ويكتب قصة قصيرة فاتنة، وعبدالله العلايلي يجمع بين علم اللغة والهم الوطني، ومهدي عامل يستنهض اللغة النظرية ويريد تغيير الكون، ومحمد عيتاني يكتب رواية في زمن ويهجرها في زمن آخر... أمسك دكروب بحجر غامض وأراد أن يصاول النسيان، لائذاً بالأرشيف تارة ومصيّراً ذاكرته أرشيفاً آخر تارة أخرى. لهذا كتب عن"وجوه لا تموت"، مستعيراً العنوان من قصة عيتاني"أشياء لا تموت"، وجمع مقالات منسية لغسان كنفاني كان يكتبها باسم مستعار:"فارس فارس"، قبل أن يصل الى غالب هلسا ونزار مروة وسعدالله ونوس وسعيد مراد، هؤلاء الذين قاسمهم التفاؤل البريء وشيعهم الى المثوى الأخير. على الأحياء أن يكونوا أوفياء للأموات، لأن الأموات كانوا أحياء ذات مرة، مثلما أن الأحياء سيكونون أمواتاً بعد حين. ولعل هذا الوفاء، الذي تعلمه دكروب من مارون عبود في حوارات مسائية بحضور حسين مروة، هو الذي دعاه الى جمع حوارات الراحل علي سعد مع آخرين. فقد حاور هذا الأخير: الياس أبو شبكة ومحمد عيتاني وطه حسين وعبدالله العلايلي ورئيف خوري وحسين مروة، وحاور مجلة الطريق. اذا كان كتاب"في الثقافة العربية"هو الوجه الآخر لكتاب"في الثقافة المصرية"، فإن حوار علي سعد مع الآخرين هو حوار دكروب مع علي سعد الذي حاور الآخرين. شيء قريب من علاقات الأبوة والتبنّي، أو من تناتج السلسلة النقدية، كما يقال، أو من رعاية تلك"السنديانة الحمراء"، التي كانت قوية الجذور ذات يوم وسقط عليها الزمن. هكذا تستمر الحياة، أو تستمر منازلة الكتابة للنسيان، اذ الكاتب يشعل في روحه ذكرى تكاد تنطفئ، واذ الكتابة تشعل شمعة على قبر عزيز. لن يكون النقد الأدبي، والحالة هذه، فعلاً تقنياً لا روح له، بل فعلاً أخلاقياً يحتضن أسماء الراحلين ودفاترهم. وقد يسأل البعض غاضباً: ماذا تستبقي الأخلاق للمعرفة النقدية التي لا تستقيم الا بجهاز مفهومي يضبط البدايات والنهايات وما بينهما؟ في ذلك التواضع المحصن بالمحبة والاجتهاد ما يوحي بأكثر من اجابة: هناك أولاً السلسلة النقدية، وهي مفهوم أنيق ولا غبار عليه، يصل بين علي سعد وحسين مروة، وبين الأخر ورئيف خوري، وبينهما طه حسين، الذي يأخذ بيد العارفين الى استاذ أزهري قديم هو: سيد المرصفي. وهناك أيضاً مفهوم لطيف الشأن هو: النقد المقارن، الذي يضع امام القارئ معالجة علي سعد عام 1988 لكتاب طه حسين"مستقبل الثقافة في مصر"، الذي نقده العالم وأنيس عام 1955، رجوعاً الى ساطع الحصري، الذي تأمل الكتاب بعد صدوره عام 1938. كتابة وسياق وكتابة مغايرة في سياق مغاير. كأن في السياق المكتوب أباً يرى الى أبنائه في سياق قادم. وهناك طبعاً اختلاف النقد في طرق النقد المختلفة، اذ للنقد المسيطر سبيله، واذ للرافضين للسيطرة طرق خاصة بهم، ذلك ان تماثل النقد ينهي حياته. ودكروب من هؤلاء"المغلوبين"، الذين يمارسون نقداً هامساً، بعيداً من أسوار الاستعلاء والسيطرة. فهو كتب كثيراً عن وجوه راحلة واحتفظ بأرشيفها، مستنفراً فكرتين تغشاهما الظلال، تقول الأولى: عرف العالم من الأموات أكثر مما عرف من الأحياء، وهو ما يجعل الأموات أساتذة لتلاميذ ما زالوا على قيد الحياة. وتقول الثانية: اذا كان في الطقوس الجنائزية ما يربط بين الأحياء والأموات فإن في الكتابة جنازة ساخرة، ذلك أن الأحياء والأموات يفترشون الورق معتقدين أن في الورق ما يصدّ الفناء."وجوه لا تموت"يقول الناقد الأديب، ويطلق ضحكة صاخبة. كل الوجوه تموت وشقاء الانسان أنه يظنها باقية.