بدأت منذ الأربعاء الماضي"الحملات الانتخابية"لاختيار رئيس جديد لجمهورية مصر العربية. ولو أن أحدًا من أهل الكهف استيقظ فجأة لما صدق أنه في أرض الكنانة ولفرك عينيه دهشة واستغرابًا. فحكام مصر المحروسة كانوا على الدوام إما فراعنة - آلهة ينصبهم كهنة, أو وُلاة تنصبهم سلطة إمبراطورية أجنبية, أو ملوكًا يتوارثون العرش أبًا عن جد, أو رؤساء مفروضون بقوة السلاح وبالاستفتاءات المزيفة حتى الموت أو القتل. أما اختيار الحاكم من جانب الشعب بالاقتراع السري المباشر فلم يحدث قبل ذلك قط, وهو بالتالي أمر عجيب يوحي بأن زلزلة الساعة ربما تكون قريبة!. ومع ذلك فلو أتيح لصاحبنا من أهل الكهف أن يلقي نظرة عابرة على لائحة أسماء المرشحين للمنصب الخطير لابتسم مطمئنًا إلى أنه لم يضل طريقه ولعاد إلى كهفه موقنًا أنه في أرض الكنانة فعلاً, وأن كل الأمور لا تزال باقية على حالها حتى إشعار آخر, وأن ما حدث من تغير أصاب الشكل دون الجوهر, وأن الرئيس الحالي هو نفسه الرئيس المقبل, وسيظل كذلك إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. ربما يرى البعض في مجرد إجراء الانتخابات حدثًا إيجابيًا بالغ الأهمية والخطورة يوحي بأن عجلة التغيير دارت ولن يكون بوسع أحد كائنًا مَنْ كان أن يوقفها, وهو ما قد يعد في ذاته تطورًا إلى الأمام رغم كل النواقص والتحفظات. ولا يخلو هذا الرأي من قدر من الوجاهة. غير أن ذلك لا ينبغي أن ينسينا حقيقة مهمة وهي أن قرار إجراء الانتخابات جاء في سياق معركة محتدمة الآن في مصر بين قوى فساد واستبداد تبدو مستميتة لإبقاء الحال على ما هي عليه, وقوى طامحة للتغيير تبدو مصممة على بناء نظام سياسي جديد على أسس ديموقراطية حقيقية, وهي معركة لم تُحسم بعد وما زال الطريق أمامها طويلاً وشاقًا. ومن هنا يتعين رؤية وتحليل"المشهد السياسي الانتخابي"الراهن في مصر في سياق تأثيراته المحتملة على مصير تلك المعركة. للوهلة الأولى تبدو"الانتخابات"الراهنة وكأنها تتويج لجولة حسمت بوضوح لصالح القوى المناهضة للتغيير والمستميتة في الدفاع عن الأمر الواقع. غير أنه يتعين على القوى الأخرى صاحبة المصلحة في التغيير أن تدرك أن الحرب لم تحسم بعد وأن هذه ليست سوى جولة واحدة في معركة ستطول كثيرًا, وهو ما يتطلب منها رصد وتحليل ما يجري أمامها على الساحة المصرية بدقة تامة وبأمانة وموضوعية كي يصبح بمقدورها التعرف على معالم طريق مفروش بالعقبات, وتحديد المواقف والخيارات الصحيحة في سياق البدائل المحدودة المتاحة أمامها الآن. وأعتقد أنني واحد من كثيرين اجتاحهم شعور بالحزن والأسى بلغ حد الإحساس بالعار بمجرد إعلان لائحة الأسماء التي اعتمدتها اللجنة المكلفة بالإشراف على الانتخابات. ورحت, مثل غيري من ملايين المصريين الغيورين على وطنهم, أتساءل: كيف يمكن لمصر التي يبلغ تعداد سكانها أكثر من 70 مليون نسمة, ووراءها تجربة نضال عريقة من أجل الديموقراطية أثمرت نظامًا ليبراليًا لم تعرف مثله أي من دول المنطقة طوال فترة ما بين الحربين, ولديها تجربة في التعددية السياسية عمرها الآن أكثر من ربع قرن, أن تفرز لائحة كهذه؟. ألا تعد هذه اللائحة في ذاتها دليلا على أن حال الحصار المضروبة على الشعب المصري لم تفك بعد؟. أو لم يكن في وسع مصر أن تفرز لائحة أفضل وأرقى وأكثر تعبيرًا عن تاريخها وعن حضارتها؟. ومن المسؤول عن هذا المشهد العبثي؟. مع تقديري واحترامي لكل الأشخاص والأسماء المعتمدة لمنافسة الرئيس مبارك في أول انتخابات رئاسية في مصر, إلا أنه ليس في وسع أي مراقب محايد سوى الاعتراف بأن المشهد برمته ينطوي على معالم هزل أضعاف ما ينطوي على معالم الجد. ولولا قرار حزب الوفد بترشيح الدكتور نعمان جمعة وقبول هذا الأخير نزول الحلبة لتحول المشهد برمته إلى موضوع للتندر. وعلى رغم أن ترشيح جمعة أضفي على المشهد مسحة من حيوية كانت غائبة كلية, فإنه لم يغير من طبيعته شيئًا. فلا تزال غالبية المواطنين على اقتناع تام بأن المشهد أقرب إلى الاستفتاء منه إلى الانتخابات!. تعد لائحة المرشحين مرآة صادقة لأزمة النظام السياسي الراهن في مصر, بجناحيه الحكومة والمعارضة الرسمية. فهذه القائمة ليست سوى إفراز مباشر للطريقة التي قام بها الحزب الحاكم بتعديل المادة 76 الخاصة بطريقة اختيار رئيس البلاد من جهة, وللطريقة التي تفاعلت بها المعارضة الرسمية مع هذا التعديل, من جهة أخرى. وإذا كانت طريقة الحزب الوطني أكدت أن هذا الحزب يرفض الإصلاح الحقيقي وسيظل يقاومه حتى النهاية, فإن رد فعل أحزاب المعارضة الرسمية أكد أن هذه الأحزاب تعاني من مرض عضال يقعدها عن قيادة معركة التغيير. الواقع أن الطريقة التي تم بها تعديل المادة 76 لا تؤكد فقط أن الحزب الحاكم يعارض الإصلاح السياسي ولكن تصميمه أيضا على استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للحيلولة دون حدوث هذا الإصلاح, وتوضح كذلك أنه لن يسمح مطلقًا بانتخابات رئاسية صحيحة وحقيقية, لا الآن ولا في المستقبل المنظور. دليلنا على ذلك إصراره العنيد على تضمين النص المعدل للمادة 76 تفاصيل عدة غير مألوفة في دساتير العالم, من دون الالتفات إلى ما قد يحدثه هذا التفصيل من تشوهات ومفارقات, وإصراره كذلك على عرض النص مسبقًا على المحكمة الدستورية, من دون الالتفات إلى ما قد يلحقه هذا التصرف من ضرر بالغ. وحول هذه النقطة الأخيرة, تجدر الإشارة إلى أن واحدًا من كبار فقهائنا القانونيين يصعب اتهامه بالانتماء للمعارضة, وهو الدكتور احمد كمال أبو المجد ذهب إلى حد التأكيد أن النص الذي طرح للاستفتاء"أدخل تعديلاً جذريًا على نظام المحكمة الدستورية, وأن من شأن هذا التعديل أن يؤدي, فيما لو درجت الحكومة على استفتاء المحكمة الدستورية مقدما على مدى دستورية مشروعات القوانين التي تتقدم بها أو يقترحها النواب إلى إغلاق أبواب المحكمة الدستورية"الأهرام - 4/8/2005. وليس لهذا الكلام الخطير, في تقديري, سوى معنى واحد, وهو أن إصرار الحزب الوطني على تحقيق مآربه السياسية دفعه لتجاوز كل المحرمات وكل الخطوط السياسية الحمراء, بما في ذلك العبث بالدستور نفسه. وأدى هذا العبث إلى شل المحكمة الدستورية وتحجيم قدرتها على أداء وظيفتها الرئيسية وهي المراقبة اللاحقة, وليس السابقة, على دستورية القوانين. فمن المسلم به أن مواطن الخلل في القوانين لا تتجلى في النصوص اللغوية المجردة, ولكن من خلال احتكاك هذه النصوص بالواقع وتفاعلها معه. ولم يكن الحزب الوطني في حاجة إلى التصرف بكل هذه العصبية إلا إذا كانت هناك حاجة في نفس يعقوب قضاها. فإذا ما أدرنا البصر الآن نحو ساحة المعارضة, سنلاحظ أن تطورًا إيجابيًا كان بدأ يتبلور في اتجاه الدفع نحو وحدة المعارضة وتلاحم فصائلها الرسمية مع قوى المجتمع المدني الجديدة والبازغة. غير أن قرار حزب الوفد ترشيح رئيسه أصاب هذه الوحدة في مقتل. وبصرف النظر عن حقيقة ومشروعية الدوافع والإجراءات التي أدت إلى هذا القرار, ومدى قدرته على تحقيق مكاسب آنية عاجلة لحزب الوفد نفسه, فإن القوى المناهضة للإصلاح تبدو هي المستفيد الوحيد منه على الصعيد الاستراتيجي. فمن شأن تصرف كهذا أن يزيد القوى الحاكمة إصرارًا على الاستخفاف بالمعارضة والتحقير من شأنها وعدم أخذها على محمل الجد. وكي لا أتسرع بإصدار حكم, يبدو متجنيًا, على تصرف أصبح أمرًا واقعًا يصعب الآن تغييره, فمن الحكمة الانتظار إلى أن تنجلي الأمور, وأن يتم تقييم هذا التصرف في ضوء ما ستسفر عنه الانتخابات من نتائج. لكن كيف نقرأ المشهد الانتخابي كما يتبدى أمامنا الآن؟ في مواجهة الرئيس مبارك يوجد تسعة مرشحين, سبعة منهم لا يعرفهم أو يسمع بهم أحد من قبل. أما الاثنان الباقيان, وهما نعمان جمعة, وأيمن نور, فيتنافسان للفوز بالأصوات المعارضة للنظام, على رغم أن كل منهما لا يمثل إلا نفسه وحزبه لأنه لا وجود في الواقع لما يمكن تسميته"مرشح المعارضة". ويعاني كل من المرشحين الرئيسيين من مشكلة خاصة به, فجمعة يعاني, كما سبقت الإشارة, من الملابسات التي أحاطت بعملية ترشحه, إذ ينظر العديد من الأحزاب وقوى المجتمع المدني إليه باعتباره طعنة في الظهر وينطوي بالتالي على قدر كبير من الانتهازية السياسية تجعله غير جدير بالثقة. أما نور فلم يستطع, إلى جانب حداثة حزبه وما صاحب ظهوره من شكوك وتساؤلات خصوصًا في ضوء موقف الولاياتالمتحدة من قضية اعتقاله, أن يسمو بخطابه السياسي فوق الاعتبارات الشخصية أو يضع خطًا فاصلاً بين الشجاعة والتهور. ولذلك خرج خطابه أحيانًا, في نظر الكثيرين, عن حدود اللياقة ومظاهر الأدب ووصل إلى درجة غير مقبولة من الإسفاف. في هذا السياق, يبدو لي أن نسبة لا بأس بها من الناخبين لن تذهب أصلاً إلى صناديق الانتخاب لقناعتهم بعدم وجود خيار حقيقي أمامهم, وأن فوز الرئيس مبارك هو مجرد تحصيل حاصل. وفي تقديري أيضًا أن جانبًا من هذه الشريحة من الناخبين كان يمكن أن يصوت لصالح مبارك لو كان المشهد الانتخابي اختلف واتسم بقدر من الجدية. أما الذين سيذهبون إلى صناديق الاقتراع فمن المرجح أن تتوزع أصواتهم على النحو التالي: أولاً: غالبية كبيرة منهم سيصوتون لصالح مبارك لأسباب متنوعة منها ارتباط مصالحهم بجهاز الدولة أو بالحزب الوطني, أو تأثرًا بالدعاية المكثفة للإعلام الرسمي, أو اقتناعًا بأن الرئيس مبارك يعد, موضوعيًا, أفضل الخيارات المطروحة. ثانيا: أقلية لن تصوت لمبارك. والمرجح أن يتوزع معظم أصواتها بين نور وجمعة وفق معايير تبدو متباينة, فالذين ضاقوا ذرعًا بسياسات الحزب الوطني سيمنحون أصواتهم لمرشحي المعارضة انتقامًا وليس قناعة. والأرجح أن يحصل نور على الشطر الأعظم من هذه الشريحة. أما الذين سيعطون أصواتهم اقتناعًا بأي من المرشحين فلا يشكلون إلا نسبة ضئيلة لا يعتد بها من هذه الشريحة. بل إنني لا استبعد أن تذهب نسبة لا بأس بها من الناخبين إلى صناديق الاقتراع, ممارسة لحقها وواجبها, ولكن لكي تضع بطاقة بيضاء تعبيرًا عن احتجاجها على المشهد برمته. وأيًا كان الوضع, فعلى قوى المجتمع المدني أن تدرك أن الأمر لا ينطوي على مفاجآت كبرى. إذ كان من المعروف سلفًا, منذ فترة مبكرة, أن انتخابات الرئاسة لن تغير شيئًا من مفردات المعادلة السياسة في مصر, وأن معركة أخرى تنتظرها ستكون هي الأكثر حسمًا في تحديد مصير الإصلاح السياسي في مصر, ألا وهي معركة الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. وعليها أن تستعد لهذه المعركة باستخلاص العبر ورص الصفوف وفرز القوى والتحالفات المختلفة استنادًا إلى الموقف من قضية الإصلاح الشامل ومن المطالب الخاصة بصوغ عقد اجتماعي أكثر توازنًا, على أن يقننه دستور جديد. أما القضايا الأخرى ففي وسعها أن تنتظر. كاتب مصري.