بالنسبة الى تاريخ الادب، والادب الفرنسي بشكل اكثر تحديداً، يعتبر اونوريه دو بلزاك واحداً من كبار روائيي القرن التاسع عشر وربما ايضاً كل الازمان. وثمة في اعمال كثيرة له، روايات تؤكد هذا. وتؤكد خصوصاً ان بلزاك هو الرسام الاكبر في تاريخ الادب لسمات الشخصيات: لسيكولوجيتها وأفعالها وردود افعالها، بحيث ان أي باحث عن فهم الانسان وطبيعته المعقدة، حسبه ان يتبحر في مئات الشخصيات التي رسمها بلزاك في قمة اعماله"الكوميديا البشرية"، حتى يجد نفسه امام الانسان كما هو، بقوته وبضعفه، بمساوئه ومحاسنه، الانسان كما يفعل في زمنه وكما ينفعل به. الانسان كما يتأثر بأخوته في البشرية في كل ساعة ودقيقة وكما يؤثر فيهم. والحال ان هذا الجانب الاساس من ابداع بلزاك، يشكل جوهر أدبه. ولكن في المقابل، وهذا امر يجب الاقرار به اخيراً، مهما كان المرء معجباً بأدب بلزاك، عجز هذا الكاتب دائماً عن ان يكون كاتباً"بوليسياً"، كما عجز عن اعطاء صدقية مطلقة لبعض حبكاته، حيث يمكننا بكل بساطة، ان نعثر في بعض الروايات على تناقض كبير بين احداث الرواية والصورة التي بها يقدم بلزاك شخصياتها. طبعاً لا يعني هذا ضعفاً عاماً نجده ماثلاً في روايات بلزاك كلها. أي لا يعني انه ينطبق على كل روايات بلزاك... اذ ان حبكاته، وحتى التي تدنو من البعد البوليسي من بينها، تظهر في معظم الاحيان قوية متكاملة... غير ان ما يلاحظ عادة في مثل هذه الاعمال، هو ان قوتها الروائية تكون على حساب تحليل الشخصيات نفسها. وفي المقابل هناك بين روايات بلزاك، اعمال يكون فيها رسم الشخصيات من الاكتمال، ما يجعل القارئ يحسب بأن هذا انما تم على حساب البعد الروائي. ومثل هذه الاعمال هي، دائماً، الاقل شهرة ومقروئية بين روايات بلزاك. من هذا الصنف الاخير رواية"غرفة العتائق"التي نشرها بلزاك في العام 1838 في كتاب واحد يضمها الى رواية قصيرة اخرى عنوانها"العانس"، وحمل عنواناً عاماً هو"الخصومات". في بداية هذه الرواية يخيل الى القارئ انه امام عمل جامع يتحدث عن مدينة فرنسية صغيرة - لا يخبرنا الكاتب باسمها، لكننا نعرف انها غير بعيدة جداً من باريس -. والزمن الذي تجرى فيه احداث هذه الرواية هو زمن عودة الملكية بعد القضاء على إرث الثورة الفرنسية وعلى الامبراطور نابليون بونابرت. اما المناخ العام لشخصيات الرواية فهو مناخ طبقة النبلاء القديمة التي منذ البداية رفضت ان تنضم الى الثورة، مبقية على حياتها وتقاليدها، ثم اتى بونابرت ودمرها تدميراً اذ رفضت كذلك ان تنضم اليه. ولكن لاحقاً حين عاد آل بوربون الى الحكم واستعادوا حكم فرنسا، لم تتحسن احوال تلك الطبقة لأن آل بوربون تجاهلوها تماماً وتجاهلوا تضحياتها من اجلهم. ومن هنا عاش هؤلاء النبلاء في معتزلاتهم الريفية تلك يتحسّرون على الماضي ويشكون من الحاضر ويتوجسون خيفة من المستقبل. رواية بلزاك هذه، تلتقط ابناء هذه الطبقة عند تلك اللحظة الانعطافية من تاريخها... ليصورها لنا منذ البداية تعيش حياتها يوماً بيوم، محافظة على تقاليدها العريقة من دون هوادة، غير مدركة ان الزمن قد تبدل وان مجرى التاريخ بات لا يستقر له قرار. انها طبقة تسعى الآن لفرض اخلاقياتها القديمة وكنوز قيمها... فقط من اجل الدفاع عن مواقع بات من المستحيل الدفاع عنها. انها تحاول مع هذا وهذه المحاولات هي التي توصف لنا بقوة وإسهاب في الصفحات الاولى من الرواية، وصولاً الى التسلل الى حياة النبيل العجوز المركيز ايغرينيون الذي سرعان ما نعرف انه زعيم حزب من النبلاء يتألف من اشخاص عجائز مثله، يجتمعون عادة في بيته وتحديداً في قاعة في الطابق الارضي لم تزل كما هي على حالها منذ ما يزيد على القرن... والحقيقة ان عراقة هذا الاجتماع وشكله ومكوناته البشرية، اذ يجرى في قاعة يمكن لأهل المدينة المارين بالقرب من المكان مشاهدتها، يبرر الاسم الذي اطلقه هؤلاء على القاعة، وجعله بلزاك عنواناً للرواية:"غرفة العتائق". بسرعة سنعرف ان المركيز ايغرينيون، رجل نبيل همه الحفاظ على القيم والمظاهر، لكنه مع هذا، مفلس تماماً لا يملك قرشاً وقد دمرته العهود المتلاحقة ودمرت كل اشغاله وثروته. ولم يكن له إلا ان يقبل بمصاهرة الطبقة البورجوازية التجارية الصاعدة لكي يتمكن من العيش. وهكذا نجده يوافق على زواج اخته الشابة من ثري جديد هو دوكروازييه، الذي يتقدم اليها لكنها ترفضه بكل احتقار. امام هذا يقسم دوكروازييه على الانتقام. وهنا تتحول الرواية من دراسة طبقة وسماتها، الى عمل روائي لا يخلو حتى من طابع بوليسي. المهم ان دوكروازييه اذ يقرر ان ينتقم يجعل محط انتقامه فكتورنيان، الابن الشاب للمركيز ايغرينيون، وهو شاب شجاع حسن الهيئة لكنه ضعيف الشخصية. ذات يوم يُرسل فكتورنيان الى باريس على امل ان ينضم الى القصر الملكي ويحقق شيئاً من الثروة. وهناك يتعرف الشاب الى الدوقة موفرينيوز وينفق الثروة القليلة التي كانت بين يديه... ثم يحدث ان دوكروازييه الذي يطارده يوقعه في حبائل مؤامرة تقوده الى المحاكمة، اذ يجعله يقترض بعض المال من دون ان يستطيع لاحقاً تسديد القرض، ثم يدفعه في غفلة منه الى ارتكاب خطأ يحاسب عليه. وهنا امام الخطر المحدق بالشاب يتدخل المعلم شينيل، المحامي الوفي الذي يعمل عادة لحساب المركيز ايغرينيون، يتدخل بالاتفاق مع اخت المركيز، وكذلك مع الدوقة عشيقة الشاب، ليتمكنوا جميعاً من انقاذ هذا الاخير من المحكمة والسجن. اما وسيلتهم في هذا فكانت حيلة رتبوها، مقابل حيلة دوكروازييه. غير ان هذا كله لم يحل دون شعور المركيز ايغرينيون، اذ حوكم ولده المفضل، بالإهانة والعار لحقا بحياته وطبقته كلها، فحزن بشدة حتى يقع صريع حزنه ويموت. وبعد موت المركيز يقرر ابنه ان يطلب الصفح عن عدوه دوكروازييه، وهو - اذ يدرك ان كل هم هذا الاخير هو اعطاء صفة النبالة لأسرته - يقرر ان يتزوج من اخت دوكروازييه، ويفعل ما يريح الجميع لا سيما دوكروازييه الذي يتخلى ازاء هذا عن رغبته في الزواج من عمة الشاب. فهو اصلاً لم يكن مغرماً بها، ولم يكن ما فعله من طلب يدها سوى لرغبته في ان ينضم، بفضل ذلك الزواج كما بفضل ثروته الى تلك الطبقة التي يحسب الآن انه صار جزءاً منها فلم يعد في حاجة الى ان يصاهرها. لقد فرق نقاد بلزاك دائماً بين القسم الاول من هذه الرواية وقسمها الاخير... فوجدوا الاول وصفياً فيه سرد لأحوال المدينة وأحوال الطبقة ودراسة معمقة للشخصيات وردود افعالها على ما فعله التاريخ بها. اما القسم الثاني فوجدوه مملوءاً بالمغامرات - التي تقترب احياناً من حدود العادية - والحبكات البوليسية - التي تقترب احياناً من حدود السذاجة -. لكن الرواية اعتبرت دائماً صورة لمرحلة ولطبقة... كما اعتبرت خطوة اساسية في مسار كاتبها اونوريه دو بلزاك 1799-1850 الذي يظل - على رغم ضروب نقص وضعف في بعض اعماله، الثانوية خصوصاً، واحداً من كبار الروائيين، هو الذي حول زمنه كله الى روايات وملأ رواياته بألوف الشخصيات. واذا كانت"الكوميديا البشرية"هي الاشهر بين اعمال بلزاك، فإن قوتها الاساسية تكمن، عدا عن طولها وتشعبها الاستثنائيين، في كونها تضم - في نهاية الامر - خير ما كتبه بلزاك طوال حياته، وأفضل ما وصف من شخصيات تغيب في رواية لتعود في اخرى، في لعبة تشابك رائعة.