هذا الصخب الدائر حول الحرية والديموقراطية، من خطاب التنصيب الذي ألقاه الرئيس جورج بوش الى ما رافق الانتخابات العراقية من ضجيج، يبدو انه يجري على سطح الذات العربية والإسلامية في الشرق الأوسط الكبير" من دون النزول الى قاعها وعمقها. واذا كانت الولاياتالمتحدة تقف وراء هذا الصخب في هذه المرحلة، فإن أوروبا سبق لها ان مارست حال الصخب نفسها خلال أربعينات القرن الماضي وخمسيناته، ونجحت في اقامة انظمة تلتزم الانتخابات النيابية والديموقراطية في معظم الدول العربية والإسلامية التي كانت لها سيطرة عليها من لبنان وسورية الى العراق مروراً بمصر ووصولاً الى دول المغرب العربي. واعتبرت اوروبا انها نجحت فعلاً في تجربتها تلك، الى ان توالت مفاجآت الانقلابات العسكرية في هذه البلاد، فأطاحت التجربة الأوروبية واقامت برلمانات على قياسها وبحسب تسمياتها المختلفة، من مجلس شعب ومجلس أمة ومجلس وطني، كانت في الواقع لتجميل الحال العسكرية اكثر منها لتمثيل الحال الشعبية، مشيرة بذلك الى ان تلك الديموقراطية عادت وتساقطت. وقبلت الكثرة الشعبية بتلك الانقلابات، حتى انها هللت لها، لأن عاملاً مثيراً دخل الذات العربية والاسلامية هي اسرائيل مع نهاية الأربعينات، فهز تلك الذات وغمرها بتحد كبير لها ولكل مخزونها التاريخي من الكرامة والعظمة والقدرة. وكان أملها ان تستطيع تلك الانظمة العسكرية، عاجلاً، ازالة اسرائيل. وبدت تلك الكثرة الشعبية وكأنها قابلة بتلك الانظمة متنازلة عن الكثير من اجل دحر هذا الكيان الجديد الذي تمركز في الأرض التي تكاد تكون مقدسة بالنسبة اليها او هي كذلك. واسرائيل شكلت مشكلة، لكن المشكلة هي انها انزرعت في فلسطين بكل ما فيها من مقدسات من المسجد الاقصى وقبة الصخرة الى حائط البراق والمعراج النبوي، اضافة الى كنيسة القيامة وكل كنائس فلسطين. ليس هذا فقط بل كانت القدسية في تلك الكيفية الفذة لتعاطي الاسلام والمسلمين من القدسوفلسطين منذ ان كانت ايلياء التاريخية والعهدة العمرية نسبة الى الخليفة عمر بن الخطاب. تلك العهدة التي أحاطت القدس باجلال تاريخي كبير عندما حافظ عمر عليها وعلى اهلها من المسيحيين او من يهود كانوا فيها. هذا كله "تكوين مقدس" استقر في الذات العربية والاسلامية وحتى المسيحية وتحول مع قيام اسرائيل في فلسطين الى جرح نازف في تلك الذات راح يبحث عن بلسمة له مع كل حاكم اياً يكون: واقتنص كل الحكام اللحظة فركزوا في تلك الذات مقولة ان الحرية تمر عبر فلسطين وتحريرها وان كل شيء يهون مع فلسطين، وفعلاً هان على الانفس كل اشكال التسلط عليها. والذي يحدث حالياً، بوعي أو من دون وعي مخطط، هو كسر ذاك المقدس في فلسطين من طريق جعل اسرائيل مستساغة، واحدة من العالم العربي والاسلامي، ولصعوبة ذلك كان المخرج هو "الشرق الأوسط الكبير"، عله يمكن من دخول اسرائيل عبره حقيقة في الذات العربية الاسلامية بعد رسوها في الجغرافيا الممتدة من المغرب حيث شواطئ الأطلسي الى أرخبيل اندونيسيا صعوداً أو نزولاً الى هذا البلد او ذاك. وهذا يفسر فعلاً ما معنى ان يجري طرح اقامة علاقات بين "العراق الجديد" وبين اسرائيل بالتزامن مع الديموقراطية الوليدة في هذا العراق. ان الذي يجري حالياً هو كسر المحرم "التابو" وجعل اسرائيل احد افراد الاسرة، ولقد بدأت تصبح كذلك. كسر المحرم الاسرائيلي بداية للتحرر من عقدة فلسطين التي ترسو في الذات العربية والاسلامية. وعندها لا تبقى الحرية ولا الديموقراطية رهينة تلك العقدة. تبقى خصوصية تقبع في عمق الذات العربية الاسلامية والمسيحية، والاسلامية ككل، وهي غرقها في كل من الانتماءات التي تحيط بها من كل جانب. انتماءات متنوعة متعددة هي حصيلة المرحلة الاسلامية وما قبلها، هي دوائر تبدأ صغيرة لتكبر او العكس: من دائرة الاسرة الأبوية ذات السيطرة الى دائرة المجتمع ككل مروراً بكل انواع الانتماءات القبلية والطائفية والمذهبية والريفية او المدينية، وغيرها الكثير. كلها تملي نفسها على تلك الذات حتى لتكاد تعطل الفردية وخصوصياتها واي شكل من اشكال التصرف الفردي. تلك الانتماءات هي حصيلة جوهر البنية المجتمعية العربية، وبنية مجتمعات وصل اليها الاسلام او دخلت الاسلام، وكان آخرها "الحال العثمانية"، اذا صح التعبير، والتي تتصف بمرتبيات وتراتبيات عائلية ودينية وعسكرية واقتصادية بقيت اربعة قرون وأكثر تحيط بالذات العربية والاسلامية، وما زالت تقبع في عمق الذات الفردية والذات الاجتماعية ككل في ما يعرف بالشخصية القاعدية لتلك الذات، من هنا أظهرت استطلاعات رأي كثيرة ان الذي يقترع عادة هو الفرد الناخب، عربياً كان او مسلماً، لكنه يضع الورقة التي تحمل اسم من توافقت عليه عائلة أو قبيلة أو حتى اسرة هذا الناخب الفرد، وذلك بهدف المحافظة على مصالحه ومصالح الأسرة او العائلة، لأن الدولة القائمة في المجتمعات العربية والاسلامية لا تحافظ وتحفظ تلك المصالح، وانما العائلة هي التي تحفظ تلك المصالح عند تلك الدولة. هذه الحال من الانتماءات موجودة في مجتمعات العالم كله، في المجتمعات الغربية الأوروبية مثلاً، وربما ما زالت. لكن قيام دولة حيادية أي غير خاضعة لأي تأثيرات عائلية او طائفية او جغرافية او غيرها، مكن الفرد من التحلل من عبء تلك الانتماءات وأتاح له ممارسة فرديته وحريته التي هي اساس ممارسة الديموقراطية. هل يمكننا تحرير فردية الفرد في المجتمعات العربية والاسلامية لتمكينه من حريته وممارسة الديموقراطية فعلاً؟ نعم وبصعوبة، ولكن كيف؟ هذا حديث آخر. * كاتب وباحث في علم الاجتماع السياسي.