البعد المسلحّ التاريخي في الثورة الفلسطينية انتهى، أو ربما يجب أن ينتهي، باعتبار أن هذا النهج قد استنفد أغراضه منذ زمن بعيد ولم يعد مفيداً ولا فعّالاً ، بل بالعكس أصبح ضاراً بالشعب الفلسطيني وأرضه وممتلكاته وأشجاره وبنيته التحتية ومزروعاته وأشجاره .. إلخ. الاستمرار في هذا النهج لا يعدو كونه اتكاء على أسلوب تم تقديسه وتصنيمه خلال أكثر من ثلاثة عقود، بحيث انغرس في الذهن الجماعي الفلسطيني كأحد المقدسات أو التابوات التي لا يجوز المساس بها في مطلق الأحوال. لكن المحاجّة هنا تنبع من الإجابة عن سؤال بسيط هو: لماذا الكفاح المسلح، بل لماذا الثورة أصلاً؟ دوستويفسكي، الروائي الروسي الشهير، مثلاً، كان معادياً لفكرة الثورة نفسها باعتبار أنه لا يمكن الحصول على أهداف نبيلة إنسانية عبر أساليب العنف التي هي لا إنسانية في مطلق الأحوال. وهو ربما كان يعتقد هذا استناداً إلى عقيدته المسيحية التي شكلت أحد عناصر أفكاره الرئيسية. هذا يعني نزع القداسة عن فكرة الثورة من حيث المبدأ. فالثورة المسلحة ما هي إلا أسلوب اجتهاد لتغيير الأوضاع. غاندي حقق أهدافه دون أي عنف مسلحاً كان أو غير مسلح. أما المسيح فكان مثالاً كبيراً على أن الثورة على الظلم والطغيان يمكن أن تتم بالمحبة. وعلى كل حال، فإذا كانت هذه الأساليب لم تنجح تماماً فإنها بحسابات شاملة حققت أقل قدر من الخسائر بالنسبة للذين قاموا بها. ثم، إذا تأملنا مصير الثورات التي تمت في القرن العشرين فإننا نجد أنها وصلت إلى نهايات حزينة بائسة. فأين وصلت الثورة الشيوعية؟ وإلى أين انتهت الثورة الجزائرية ودزينة أخرى من حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية؟ طبعاً، إننا لا نريد أن نذهب إلى شجب الثورة فكرياً وفلسفياً إذ يبدو ألا مفر منها في بعض المراحل. لكن الفكرة التي نريد التأكيد عيها هي أن الثورة المسلحة مجرد أداة لتحقيق بغض الأهداف، لكنها ليست مقدسة وليست صنماً يُعبد. أما بالنسبة للثورة الفلسطينية، ونعود إلى الموضوع، فقد حققت على مدى أربعة عقود شيئاً من الكيانية لم تكتمل بعد. وفي وقت مبكر كررت دائماً بأن"فتح"لم تكن إلا ثورة الكيان ولم تكن قط ثورة تحرير، كما يمكن إضافة وتحليل الظروف والأسباب التي قادت إلى هذا المآل . والآن، يدرك الرئيس أبو مازن هذه الأبعاد كلها ويعمل ببساطة كربّ أسرة، لا يعد بشيء كثير، لكنه يعد بالحفاظ على ما تبقى في يد الشعب الفلسطيني، وهو قليل على كل حال، لكنه يعد أيضاً بتنميته، وخاصة لجهة تفاصيل الحياة اليومية، كحركة التنقل والذهاب إلى المدارس والحقول والجامعات وتخفيف الحواجز وربما انسحاب الجيش الاسرائيلي من بعض مدن الضفة. هذه الأمور اليومية التي تمس صميم حياة الشعب الفلسطيني ربما اعتبرها البعض أموراً تافهة لا قيمة لها قياساً إلى الأهداف السامية العليا من تحرير كامل وخلافه. لكن دعاة التحرير الخيالي هؤلاء لم يجلبوا للشعب الفلسطيني سوى الويلات. أما استمرارهم في هذا النهج فسيحقق الكارثة النهائية لسبب بسيط هو أن الطرف الفلسطيني ضعيف في لعبة العنف، وهم الأقوى بالتأكيد وقدرتهم على إيذائنا تفوق قدرتنا على إيذائهم بعشرات المرات. وقد لخص ذلك بشكل تصويري أحد الصحافيين الاسرائيليين الذي كتب مرة يقول"ربما استطاع الفلسطينيون عبر عملياتهم الإرهابية أن يقطعوا أحد أصابعنا الصغيرة لكننا... فقأنا عيونهم!". لا نتبنى ذلك تماماً لكنه ليس بعيداً جداً عن الحقيقة. أما إذا سألتني ما العمل، فإنني أجيب مستخدماً الحكمة المصرية"أدي ربنا وأدي حكمته". أوضاعنا على حافة الهاوية لا تحتمل أية مجازفة، والتهدئة مطلوبة، وبث الحياة في الحياة الفلسطينية المدنية مطلوب إذ يجب ألا ننسى أننا ثرنا أصلاً من أجل الأرض والشعب، أي أنه يشكل أصلاً نصف معادلة الثورة. إن الالتفات إلى أمور الناس ليس مسألة تافهة وإنما هو أساسي وحيوي ، فما قيمة الحياة لأية أسرة إذا كان الوالد عاطلاً عن العمل والولد لا يذهب إلى المدرسة، وهل يبقى أمامهم إلا اعتناق ثقافة الموت!؟ نعم، نحن بحاجة إلى فترة راحة طويلة لنستعيد الأنفاس، لا لاستئناف العمل المسلح بل لإدارة المشكلة بحكمة وهدوء، محاولين ألا نفرط بما لا يمكن التفريط به، منتظرين المستقبل وما يمكن أن تأتي به الرياح. [email protected]