قفزت مشكلة الحصول على وقود السيارات إلى رأس قائمة الهموم التي تواجه المواطن العراقي، وتبرز في المشاهد اليومية لطوابير الانتظار الطويلة أمام محطات الوقود، من دون أن يلوح في الأفق أمل للتغلب عليها. كما تطغى هذه المعضلة على الأحاديث والمناقشات العامة والخاصة، على رغم أنها نادراً ما تتطرق إلى الحلول الكفيلة للتغلب على هذا المأزق. بداية، لا بد من الإشارة إلى أن تدني سعر الوقود وبقية المشتقات النفطية يعود إلى التدهور الشديد في قيمة العملة العراقية التي شهدت تراجعاً حاداً في الأعوام ال15 الأخيرة، من عشرة دنانير لكل دولار في 1991 إلى 1460 ديناراً في 2004، وصاحب ذلك انخفاض في سعر وقود السيارات إلى 1.4 سنت أميركي لكل ليتر، أي ما يعادل 2.2 دولار للبرميل بما فيه كلفة التكرير والنقل والتوزيع. واستمرار العمل بهذا السعر معناه، ببساطة، توقف منظومة الأسعار عن أداء وظيفتها في ترشيد الموارد الاقتصادية للمستهلكين والمزودين على حد سواء. وتكفي الإشارة إلى الفروق الهائلة مع الدول المجاورة لتبيان فرص الهدر التي يتيحها تهريب البنزين من العراق إلى جيرانه، إذ لا تتجاوز نسبة ما يدفعه المستهلك العراقي ال20 في المئة من أدنى الأسعار السائدة في المنطقة، وهي إيران. وتتضاءل هذه النسبة إلى ثلاثة في المئة مقارنة مع ما هي عليه في الأردن وسورية. أما في دول مجلس التعاون الخليجي، فإن سعر الوقود يراوح بين 15 و20 ضعفاً من السعر السائد في العراق. لكن الفارق يبقى هائلاً قياساً بأسعار السوق في تركيا حيث يزيد سعر الوقود عن الوقود العراقي بأكثر من 70 ضعفاً. وهنا لائحة بأسعار وقود السيارات بالسنت الأميركي لكل ليتر وبالدولار للبرميل في العراق والدول المجاورة: دولار للبرميل سنت/ليتر الدول 2.2 1.4 العراق 1.11 7 إيران 82.7 52 الأردن سورية 31.8 20 الكويت 38.2 24 السعودية 47.7 30 الإماراتالبحرينعمان 162.6 102 تركيا يشار إلى أن هذا التدني في سعر الوقود وبقية المشتقات النفطية في السوق العراقية صاحبه ارتفاع ملحوظ في الاستهلاك، الذي تضاعف في الآونة الأخيرة بعدما سمحت السلطات باستيراد السيارات على اختلاف أنواعها لشهور عدة في 2003/ 2004 من دون القيود المألوفة في بقية بلدان العالم التي تتنوع عادة بين القواعد المرورية، أو الضريبية، أو البيئية. ومع تقادم مصافي التكرير وتعرضها للتخريب بين فترة وأخرى، لجأ العراق إلى استيراد كميات متزايدة من المشتقات النفطية بكلفة تصل إلى نحو 2.4 بليون دولار سنوياً. على أن تقديرات المبالغ الإجمالية للإعانة على المشتقات المذكورة بلغت نحو سبعة بلايين دولار عام 2004 بما فيها تكاليف النقل والتوزيع، وإعادة تصليح مصافي التكرير، ومرافق البنية الأساسية، إضافة إلى حماية المنشآت. ويقدر معدل استهلاك العراق من بنزين السيارات خلال 2004 بنحو 115 ألف برميل يومياً، وكمية مماثلة من الديزل. أما الكيروسين المنزلي، فإن الطلب عليه يبلغ 95 ألف برميل يومياً. والمعروف أن كل هذه المنتجات تباع بأسعار متدنية تراوح بين 1.4 سنت لكل ليتر من البنزين إلى 0.7 سنت، للديزل و0.3 سنت للكيروسين. ويجمع الخبراء والمنظمات الدولية على أن الوقت حان لمعالجة المشكلات الناجمة عن دعم المشتقات النفطية البالغ نحو سبعة بلايين دولار، ما يمثل ثلث الدخل المحلي الإجمالي في 2004. لكن تلك الرغبة تعتبر الخطوة الأولى في إجراءات تعديل الأسعار التي قد تصطدم بردود فعل شديدة من الأطراف المستفيدة من الدعم، سواء من خلال التهريب إلى الدول المجاورة، أو من السوق السوداء، أو من الاستهلاك المباشر. ولا تشجع التجارب السابقة للكثير من الدول النفطية على تعديل الأسعار ما لم ترافقها إجراءات للتخفيف من وطأتها. وكان العراق نفسه تعرض لتجربة مماثلة قبل أكثر من أربعين عاماً حين سعت الحكومة الى زيادة سعر المشتقات النفطية مطلع الستينات فجوبهت بمقاومة واسعة. لذلك تنبغي الاستفادة من تلك الدروس عند التخطيط لتعديل سعر وقود السيارات وبقية المشتقات النفطية. وتشير التجارب السابقة في هذا المجال إلى أن إجراءات التعديل سيكون مصيرها الفشل إذا لم تصحبها جهود تؤكد حرص السلطات على الحفاظ على المستوى المعيشي للمواطنين. وهذا بدوره يستلزم الشروع في حملة إعلامية واسعة لإبراز الكلفة الاقتصادية الباهظة لاستمرار الدعم، وتبيان الفوائد الكثيرة المترتبة على التخلص منه، بما فيها القضاء على التهريب والسوق السوداء وما يكتنفها من تبذير في الجهود والموارد، إضافة إلى إمكان توفير المبالغ اللازمة لإقامة البنية الأساسية وتحديثها. ومما يساعد في ذلك المساهمة الفاعلة للمؤسسات الجديدة في العراق من منظمات المجتمع المدني والأحزاب والتجمعات على اختلاف ألوانها. من جهة أخرى، فإن التدرج في زيادة الأسعار، وتعديلها عبر فترة زمنية تمتد لسنوات عدة قد يجعلها أكثر قبولاً للمواطن، بخاصة إذا صاحبتها إعادة نظر في المبالغ النقدية التي يحصل عليها المواطنون من الرواتب والمكافآت. وهذا الأمر مطلوب بالذات بعد توقيع اتفاقية إعفاء الديون مع نادي باريس. وفي الختام ينبغي التأكيد أن المساعي المبذولة في هذا المسار تتطلب المشورة والاستعانة باستطلاعات الرأي لتحديد الأسلوب الأمثل لتنفيذ هذه الإجراءات للتغلب على ردود الفعل العكسية. * مدير الإدارة الاقتصادية سابقاً في "منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول"