إذا ابتعد المرء من الوضع اللبناني المتفجر ليقرأ ما استجد من تطورات في الوضع الدولي، مع نظرة سريعة الى الحال العربي، خلال الاسبوع الماضي، فلا يكون، عملياً، قد ابتعد من الوضع اللبناني، بل اقترب منه اكثر. وذلك لعظم التأثير الذي يعكسه الوضعان الدولي والعربي - الاقليمي الايراني خصوصاً في المرحلة الراهنة على اتجاه التفجر في المسرح اللبناني. ان التطور المهم والرئيسي، والبعيد الأثر، الذي شهده الاسبوع الفائت، تمثل في ما ظهر من تغير مشهود في الاستراتيجية الاميركية مقارنة بالاستراتيجية الاميركية التي سادت خلال السنوات الثلاث الماضية، وعلى التحديد إزاء أوروبا والتحالف معها. ففي زيارة الرئيس الاميركي جورج بوش الأخيرة في 21/2/2005 لبروكسيل، وعشائه مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، تناول علاقات بلاده بأوروبا تناولاً يختلف نوعياً عن تناول ادارته لتلك العلاقات في ولايته الأولى. فأوروبا لم تعد تقسم الى"جديدة وقديمة". واصبحت أوروبا الموحدة القوية"قوة لأميركا"وليست حالة منافسة خطرة غير مرغوب فيها. وغدا حلف الاطلسي الناتو محور التحالف العالمي في الاستراتيجية الاميركية بدلاً من نظرية"تحالف الراغبين"، وفقاً لكل حالة، ومن ثم عدم الحاجة الى"تحالف ثابت". وكان يقصد بذلك"حلف الناتو". واذا كان من البديهي في كل استراتيجية تحديد جبهة الحلفاء وما يتبع ذلك من مراتب في درجة التحالف والصداقة والتحييد، فإن ما أشير اليه من تغير في موقف ادارة بوش في ولايتها الثانية ازاء التحالف مع أوروبا، وبعد اعادته الى المركز الذي كان يحتله في مرحلة الحرب الباردة، يكون العالم امام تغير استراتيجي كبير لا سيما في حال تطوره في الاتجاه الذي تكرس في الزيارة المذكورة. وهو الذي مهدت له زيارة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية لباريس، وكان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع قد اشار اليه في مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي أوائل الشهر الجاري. هذا التغير، اذا ما تكرس، يجب ان ينظر اليه باعتباره انقلاباً داخل الاستراتيجية الاميركية التي تبنتها ادارة بوش في عهدها الأول. ومن ثم فهو اقرار صريح بالفشل الذي منيت به اميركا في ظل الاستراتيجية السابقة، وان كانت عنجهية الدولة الكبرى لا تسمح لها باعلان نقد ذاتي جوهري، أو الاعتراف بالاخفاقات المتعددة الأبعاد التي حاقت بها. وذلك على الضد من كل تلك التحليلات السياسية التي أطنب بها كثيرون من الكتاب والسياسيين، وهم يتحدثون عن نجاحات السياسة الاميركية وانفرادها في تقرير مصير العالم، أو تلك التي راحت تقلل من دور أوروبا وأهميتها أمام"جبروت الدولة الكبرى الوحيدة"في العالم. فمن يقرأ خطاب بوش في قاعة"كونسير نوبل"في بروكسيل، يتأكد من خطورة التحول الذي اخذ يحدث في التحالف الاميركي - الأوروبي. وهو شهادة، غير مباشرة، في نقد السياسات السابقة، ومحاولة لتلافي تكرارها في المرحلة المقبلة. الأمر الذي يعني ان اميركا اصبحت أقوى واكثر خطراً، وستكون أقل حماقة اذا ما التزمت، فعلاً، بمشاركة أوروبا في قراراتها. ولعل من أولى موجباتها المقابلة ان ينتهي الارتباك العربي الذي قام، في ما قام عليه، من وهم ازاء الهجمة الاميركية - الصهيونية، التي استهدفته، وجعلته مشلولاً، بسبب سوء التقدير للموقف، وهو يرى ما يحدث في العراق وفلسطين والسودان واليوم في لبنان. وبكلمة هذا المتغير في العلاقات الاميركية - الاوروبية جعل يُدخل العالم في مرحلة جديدة. فهل من التقاط عربي مبكر لتداعياتها المختلفة بعيداً من عقلية التراجعات والعمل القطري المنفرد في مواجهة الضغوط الأميركية؟ على ان أمام التحالف الاميركي - الأوروبي القديم - الجديد طريقاً طويلاً. فالخلافات المتراكمة بين أوروبا واميركا كثيرة تتعدى ما ظهر على السطح في اثناء التهيئة الاميركية للعدوان على العراق واحتلاله. فأوروبا الآن تريد مواقع أقوى داخل"الناتو"نفسه. وتسعى لرفع الحظر الاميركي عن وصول التكنولوجيا العسكرية اليها. ولم تعد تقبل ان تكون مجرد حليف، فهي تسعى الى موقع الشريك بحيث يكون لها دورها في القضايا العالمية من سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية. واذا ما اعتبرنا أن الذي انكسر وهرع الى الآخر محتاجاً بقدر حاجة الثاني اليه، ان لم يكن اكثر، انما هي اميركا، فهذا يفرض عليها ان تدفع الثمن الباهظ، اذا ما أرادت ان يقوم تحالف متين وفاعل وطويل باع وأمد، وليس مجرد تقاطعات في قضية أو قضيتين. ولهذا، فالسؤال هل سيثبت التحالف الجديد أمام امتحان القضايا الخلافية الاساسية؟ علماً ان ما تحقق حتى الآن مجرد رغبة في التحالف واعادة تذكير بما هو مشترك من قيم وحضارة. فالاتفاق لم يكتمل حتى بالنسبة الى لبنان قضية"حزب الله" فكيف عند بحث موضوع معالجة النووي الايراني، في حال فشل الضغوط الديبلوماسية، او مواجهة الوضع العراقي والقضية الفلسطينية والحل الشاروني، كما العلاقات بالسعودية ومصر وسورية، وابعد منها العلاقات بروسيا والصين ومنظمة التجارة العالمية والتنافس الاقتصادي العالمي ومواقع النفوذ. والسؤال الثاني، هل ستقف مراكز القوى العالمية الأخرى: روسيا والصين والهند وبلدان العالم الثالث، مكتوفة الأيدي، لا سيما اذا اتجه الحلف الاميركي - الأوروبي الى اقامة نظام عالمي جديد ثنائي القطبية بدلاً من متعدد القطبية بعد سقوط نظرية"أحادي القطبية"؟