قامت قبل 25 عاما وفي مثل هذه الايام ثورة شعبية عارمة عرفت في ما بعد بالثورة الاسلامية في ايران. ويصنف المؤرخون هذه الثورة ضمن الثورات العالمية الكبرى في العهد الحديث كالثورات الفرنسية والروسية والجزائرية، ويعدونها آخر ثورة تحديثية في هذا العهد وقد تميزت الثورة الاسلامية من نظيراتها بعدة سمات: اولا انها كانت من الثورات السياسية الاكثر شعبية في العالم حيث شاركت الجماهيرالايرانية من خلالها في تظاهرات مليونية هزت عرش الطاووس واسقطت الامبراطورية الشاهنشاهية بعد 25 قرنا من الاستبداد والديكتاتورية"وثانيا، لم تكن ثورة علمانية كسابقاتها من الثورات التي اشرنا اليها بل كانت ثورة دينية"و ثالثا، لم يقدها حزب او جبهة او شيء من هذا القبيل بل شخصية اية الله الخميني الكاريزمية. لا شك ان عدة شرائح اجتماعية شاركت في العملية الثورية والترويج لها وهي: التجار التقليديون تجار البازار، ورجال الدين الاصوليون الثوريون بقيادة اية الله الخميني، وشباب المدن الذين درسوا في المدارس والجامعات التي بناها نظام البهلوي البائد نفسه، والقوى اليسارية المتنوعة كالشيوعيين والمجموعات الماركسية المختلفة، إذ كانت المشاركة الفاعلة للعمال وخاصة عمال شركة النفط مصيرية، غيران سكان الصفائح واحزمة البؤس في المدن، كانوا السواد الاعظم والوقود الرئيسي للثورة الاسلامية حيث قامت ثورة الشاه البيضاء في مطلع الستينات بانتزاعهم من قراهم عنوة. ولم يعرف هؤلاء آنذاك اي شيء عن الديموقراطية ولم يعرفوا اية ايديولوجيا اخرى غير الاسلام المسيس، وذلك بسبب قمع الاحزاب والايديولوجيات المعارضة الاخرى والغياب الكامل للديموقراطية في عهد الشاه. وكان الشعار الرئيسي لثورة شباط فبراير 1979 والذي رددته الملايين في شوارع المدن الايرانية هو"استقلال، حرية، جمهورية اسلامية". ويبدو ان ركني هذا الشعار قد تحققا غير ان ركن الحرية لا يزال مشلولا رغم مرور قرن كامل من النضال الذي تخوضه الشعوب الايرانية من اجل الحرية و الديموقراطية. وقد ادخل رجال الدين من أجل تعزيز قبضتهم على السلطة التي حلموا بامتلاكها لعدة قرون، المبدأ الفقهي المعروف بولاية الفقيه، وذلك لاقصاء منافسين واعداء لهم تاريخهم النضالي في ايران. وقد ساعدت الحرب العراقية - الايرانية، السلطة الاسلامية الفتية على القضاء على معظم الفصائل المعارضة والمنافسة حيث تمكن الخطاب الاسلامي الذي تفرغ لتوه من اقصاء الخطاب الملكي، من فرض سيطرته على الخطاب اليساري والخطاب القومي الفارسي والخطاب القومي غيرالفارسي. وشهدت الثورة الايرانية بعد الحرب العراقية - الايرانية 1980-88 فترتين: عهد الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني 1989-79 وعهد الرئيس محمد خاتمي 1997-2005. وقد ركز رفسنجاني على التنمية الاقتصادية دون التنمية الثقافية والسياسية، فيما اكد الرئيس خاتمي على اولوية التنمية السياسية والثقافية دون ان يهمل التنمية الاقتصادية. وقام هو والتيار الموالي له بعملية اصلاحية سياسية، غيرانها لم تنجح في تحقيق معظم اهدافها رغم سيطرتها على السلطتين التنفيذية والتشريعية في الدورة السادسة للبرلمان، وذلك لسببين اساسيين: أولا المقاومة الشرسة التي ابداها خصومه السياسيون من محافظين ومتشددين، وثانيا ضعف شخصيته السياسية وعدم اعتماده على الجماهير التي ابدت دعمها له في ولايته الاولى ومطلع ولايته الثانية"لكنها اخذت تتراجع عن مساندته رويدا رويدا. ولاننسى ان خاتمي هو مفكر واكاديمي قبل ان يكون سياسيا محترفاً. وقد اصيبت الجماهيرالايرانية المساندة للاصلاحيين بحالة من الاحباط ادت الى مقاطعة الانتخابات، استغلها الاصوليون في الانتخابات البلدية عام 2002 والانتخابات النيابية في العام نفسه، حيث هيمنوا على السلطة التشريعية ومعظم المجالس البلدية في ايران. وقد وصلت ايران حاليا الى مرحلة يهيمن فيها خطاب الدولة على خطاب الثورة، وتتعايش فيها مواطن القوة والضعف. وتعتبر ايران قوية عسكريا على مستوى المنطقة لكنها ليست الاقوى"كما ان اقتصادها، رغم المشاكل البنيوية، يسير وفق خطى محسوبة ويتمتع بنمو تصل نسبته الى 6-7 في المئة، حيث تمت معالجة عملية التشغيل ولو بصورة مؤقتة. غيران الفجوة الاجتماعية بين الشرائح المختلفة تزداد يوما بعد يوم. ولهذا اسباب عديدة منها السياسات الاقتصادية التي انتهجها الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني بعد الحرب والفساد المستشري في ادارات الدولة حاليا. والفجوة الاخرى هي بين القوميات غير الفارسية والقومية الفارسية المهيمنة على المواقع المفصلية للسلطة والثروة. فعليه نرى ما يسمى بقضية الاقليات و القوميات اليوم مطروحة على أجندة الانتخابات الرئاسية، وكل مرشح يحاول ان يستغلها لصالحه سلبا او ايجاباً. وتعد حركات الشعوب غيرالفارسية الى جانب المثقفين الذين تجاوزوا النزعة الاسلامية، والحركة النسوية، والحركة الديموقراطية للطلبة الجامعيين، من افرازات عهد خاتمي"حيث تحاول كل هذه الحركات ان تتجاوزه لتبدأ عهدا آخر ستتوضح ملامحه الاساسية تبعاً للظروف الدولية والحركات السياسية الايرانية في الخارج. والحركة الطلابية راهنا ليست كما هي قبل قيام الثورة، حيث كانت تزود الحركات الثورية والمسلحة بالكوادر. بل اصبحت اصلاحية غيرثورية وديموقراطية فيما قطعت كافة الاواصر التي كانت تربطها بالاجنحة الحكومية لتركز اكثر فاكثر على قضية الديموقراطية. ويعتقد بعض المراقبين ان المجتمع الايراني باغلبيته تجاوز النزعة الاسلامية الاصولية، فيما يهيمن المحافظون الاصوليون على المواقع المفصلية للسلطة"ويرون في ذلك انسدادا سياسيا في تطور المجتمع الايراني. وتتجه الحركة الطلابية في ايران نحو الراديكالية حيث طالب أربعة من زعماء منظمة"تعزيز الوحدة"، وهي اكبر تنظيم طلابي في ايران، الى جانب أربعة من الشخصيات السياسية المعارضة، في بيان اصدروه قبل بضعة اشهر باجراء استفتاء شعبي لتغيير الدستور الايراني. كما ينتقد معظم الطلاب مواقف الرئيس خاتمي ويتهمونه بالمساومة مع المحافظين على حساب قضايا الحرية والديموقراطية في ايران. والمثقفون الايرانيون ينقسمون الى فئتين اساسيتين: فهناك المثقفون الدينيون والمثقفون العلمانيون، وقد اتجهت الفئتان الى الليبرالية وابتعدتا عن النزعة الاسلامية الاصولية. وينشط هؤلاء في المؤسسات الثقافية والمدنية وابرزها المتعلقة بحقوق الانسان. كما تعتبر الحركة النسائية التي تتسم بالنسوية من اهم الحركات الاجتماعية الفاعلة على الساحة الايرانية، وتملك بعض المؤسسات المدنية والصحف والمواقع الخاصة بها. لكن، مع كل هذه التفاصيل، تبقى المؤسسة الدينية الاقوى حتى اشعار آخر. ورغم التهديدات والضغوط الاميركية على ايران وتأرجح الاوروبيين في قضية الملف النووي الايراني، لا نرى اي بادرة في الافق تدل على امكان حصول تقارب بين القيادة العليا للبلاد والادارة الاميركية، وذلك بالرغم من الاشارات التي يرسلها بعض القادة الايرانيين كهاشمي رفسنجاني للاميركيين. اذ لا تزال تؤكد القيادة العليا على نيتها تخصيب اليورانيوم وامتلاك دورة الوقود النووي لأغراض سلمية. كما انها لا تتزعزع عن مواقفها تجاه القضية الفلسطينية ودعمها للفصائل الاسلامية بالرغم من المرونة التي تبديها تكتيكياً. ونرى مثل هذه المرونة في العراق ايضا. إذ ان ايران، لإبطال مفعول الوجود الاميركي هناك وتأثيره على الوضع الداخلي، اخذت تلعب على ورقتين: الاولى تشجيع المقاومة - شيعية كانت ام سنية - من جهة، وتعزيز العلاقات مع القوى المتعايشة مع الادارة الاميركية في العراق. وقد تمكنت ايران حتى اللحظة من صد التداعيات الناجمة عن الهجوم الاميركي على العراق باتخاذ سياسات براغماتية شاهدناها خلال العامين الماضيين. غير ان الانتخابات العراقية الأخيرة سيكون لها أثر مهم على الوضع الايراني. ويبدو ان المحافظين في ايران يخشون الآثار الزلزالية لانتخابات حرة غيرمسبوقة منذ نصف قرن، وديموقراطية وفيدرالية قادمتين من العراق. فهم يعلمون ان القوى السياسية المختلفة، الاصلاحية والمعارضة والمنتمية الى الشعوب غيرالفارسية والمتذمرة من الخناق المتزايد على هامش الديموقراطية، ستتأثر اكثر من غيرها بالتطورات السياسية في العراق. فعلى سبيل المثال، اشاد قبل ايام رئيس اتحاد الصحافيين الايرانيين علي مزروعي في اجتماع للصحافيين، بتنوع الصحافة العراقية، مقارنا ذلك بالتضييق التي تشهده الصحافة الايرانية، معرباً عن أسفه لذلك. كما حصل بعد ساعتين من الاعلان عن الدستور العراقي المؤقت، هرعت الجماهير في كردستان وسائر المناطق الكردية الايرانية للاعلان عن بهجهتها وسرورها للانجازات التي حصل عليها ابناء جلدتهم في كردستان العراق وعلى رأسها الحكم الفيدرالي. وبعد صدها الهجوم الاميركي على العراق قبل عامين بفعل سياساتها المرنة، تحاول السلطة الايرانية وبشتى الطرق ان تصد الموجة الجديدة الآتية من العراق والحاملة معها مفاهيم الديموقراطية والفيدرالية والانتخابات الحرة. ويبدو ان ايران ستستخدم علاقاتها الحسنة نسبيا مع الفصائل الشيعية للحد من هذه الظاهرة، وسوف تشدد على ضرورة خروج المحتلين من العراق، اي انها، للتخفيف من تداعيات الموجة الديموقراطية - الفيدرالية على المجتمع الايراني المتنوع سياسيا وقوميا، تحاول التأكيد على عدم التماثل بين وضعها ووضع العراق والتشديد على ظاهرة احتلال العراق والتهويل بقضية استقلال القرار الايراني ووقوف ايران في وجه اكبر قوة عالمية. ولا شك ان استقبال الجماهير العراقية للانتخابات ونبذها العنف والراديكالية الدينية سيعزز من مواقف القوى المطالبة بالديموقراطية والتعددية في المجتمع الايراني. كاتب إيراني.