من الصعب القول ان ما شهدته بيروت أمس هو غضبة السنّة في لبنان، فالغضبة انخرطت فيها جماعات لبنانية اخرى ايضاً. وأول ما يمكن تسجيله قبل الشعارات التي رددها الجموع، هو غياب القوى السياسية الشيعية عن حدث لبناني بهذا الحجم، اذ ان هذه القوى بدا انها عزلت نفسها عن ظاهرة ربما شكلت المعنى المستقبلي للبنان. فالمتظاهرون اللبنانيون خلف جنازة رفيق الحريري التأموا على نحو لم يلتئموا عليه منذ ما قبل الحرب في لبنان، ورددوا شعارات تكاد الأذن لا تصدقها لجهة تقاربها. كان تهافت الجموع من منطقة بشارة الخوري باتجاه ساحة الشهداء يترافق مع تبدل في الأعلام والإشارات والصور. صور الحريري مترافقة مع شعارات شديدة العداء للوجود السوري في لبنان، وتتصاعد هذه الشدة مع وصول حملة اعلام الحزب التقدمي الأشتراكي الى ان نصل الى ذروة هذا العداء مع وصول جماعة اليسار الديموقراطي. ويتخلل هذا العبور التصعيدي فترات هدوء يشهدها شارع العبور الى الجنازة عندما تقطعه مجموعات مشايخ دار الفتوى، او مجموعات من النساء اللواتي يصدرن اصوات بكاء خفيض تقطعها عبارات الخوف على مستقبل الأولاد. هذا التقسيم للمشاركين في جنازة الحريري بالأمس يوازيه تقسيم آخر للمشاركين. انه التقسيم المناطقي، اذ تقاطرت الى ساحة الشهداء جموع من كل المناطق اللبنانية. كان اشدها ضراوة تلك الجموع التي سارت خلف لافتات وقعت بأسم ابناء الطريق الجديدة، لكن ابناء قرى البقاع الغربي وصلوا ايضاً وهتفوا ضد سورية وضد رئيس الحكومة عمر كرامي وضد وزير الداخلية سليمان فرنجية. اما المستهدف الأول بشعارات المتظاهرين فكان كل من الرئيسين السوري بشار الأسد واللبناني اميل لحود. ولم تغب مدينة صيدا عن مشهد المشاركة المناطقية في تظاهرة التشييع. كان من الصعب على المراقب في ساحة الشهداء أمس ضبط مشهد وصول المشيعين، اذ ان الأزقة كلها تحولت الى شرايين رفدت الساحة بالواصلين. فمن الجهة الشرقية للساحة كان شباب التيار العوني يصلون حاملين الأعلام اللبنانية وغير مغلفين شعاراتهم بعبارات السيادة والاستقلال وانما بشعارات مباشرة اكثر هذه المرة تتهم سورية بالوقوف وراء الاغتيال. والى جانب المشاركة العونية رصدت ايضاً مشاركة ملحوظة لأبناء الأشرفية الذين وصلوا متفرقين الى شرق الساحة وكانت مشاركاتهم عائلية، اذ لوحظ حضور رجال ونساء تجاوزوا عمر الشباب من بينهم. ومن شرق ساحة الشهداء ايضاً امكن تسجيل غياب ثان عن التظاهرة هو غياب اعلام القوات اللبنانية. المشهد من اسطح المباني المجاورة لمسجد الأمين في وسط بيروت يثير الذهول، ليس فقط بسبب عدد المشيعين الذي ناهز بحسب التقديرات السبعمئة الف، وانما ايضاً بسبب اقتصار التنظيم على عناصر الكشافة في ظل انكفاء عناصر القوى الأمنية واقتصار حضورها على افراد قليلين. لقد امكن رصد هذا الأنكفاء من اسطح المباني اكثر، اذ بدا واضحاً من هناك ضآلة الحضور الأمني الرسمي والظاهر، وشكل ذلك ترميزاً واضحاً للرغبة في عدم مشاركة الحكومة بالتشييع. وامكن ايضاً من اسطح المباني سماع صوت الميكروفون يطلب من المشاركين التجاوب مع عناصر الكشافة وافساح الطريق ليعبر موكب الجنازة. لم تقتصر المشاركة في تظاهرة التشييع التي وصلت الى ساحة الشهداء على الكتل الهاتفة والغاضبة والتي اعلنت مبايعتها نجل الحريري بهاء الدين، وانما ايضاً شملت اعداداً كبيرة من الأفراد الذين لم يصلوا ضمن تجمعات هاتفة. كثيرون من هؤلاء جاؤوا بصمت حاملين وروداً بيضاً، ومن بينهم تجمعات صغيرة لأجانب وغربيين حملوا لافتات كتبت عليها عبارات من نوع It's obvious! no? وهي العبارة التي رد بها بهاء الدين الحريري عندما سئل عمّن يتهم باغتيال والده، وagainst terrorism in lebanon وهو امر لم يسبق ان لحظ في مناسبات مشابهة في لبنان. وقد اضفى هذا النوع من المشاركة على التشييع طابعاً مدنياً خصوصاً ان طغياناً نسائياً ساده وتخللته ايضاً دموع غير صاخبة واصوات غير مرتفعة. كان الغضب الى جانب الحزن الهادئ، والورود البيض الى جانب الشارات الحزبية، وكانت تظاهرة المشيعين تسير لوحدها من دون مواكبة امنية ويرافقها عناصر من الدفاع المدني جعلوا يسعفون العشرات ممن انهاروا وينقلونهم الى المستشفيات القريبة. مروحيات الجيش اللبناني وحدها اشعرت المشاركين بحضور الدولة اللبنانية فيما راح بعض المتظاهرين يرمقها ويشير الى طياريها بيديه طالباً مغادرتها، فيما عناصر الشرطة القليلون شعروا بمزيد الغربة، فنكسوا اسلحتهم وبذلوا جهوداً لتفادي الاحتكاك مع المواطنين الغاضبين.