سيارة قوى الأمن الداخلي التي توقفت أمام مركز حزب البعث قرب جسر الكولا في بيروت لم تبعث الارتياح في النفوس. الحركة مشلولة والشارع مقفر وصولاً الى الملعب البلدي. وحدهم رجال الامن في ذهاب وإياب لاجهاض أي محاولة تخريب. المركز الذي كسر زجاج واجهاته الامامية بفعل فورة الغضب التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري بدا خالياً. واجهاته المحطمة لم تصلح بعد مثل غالبية الفنادق والمطاعم والمحال التجارية التي تضررت من قوة الانفجار، مع فارق وحيد أن أحداً لم يعبّر عن أسفه لهذا الزجاج بالذات. موقف السيارات العمومية التي تقل ركاباً بين بيروت ودمشق والمجاور لمركز الحزب فارغ. لا شك في أن السائقين السوريين خافوا من أن يتعرضوا لما تعرض له عدد من مواطنيهم، خصوصاً في منطقة"البوريفاج"التي حوصرت ليلاً ونال فيها السوريون حصة من الضرب والشتم. وفي الجهة المقابلة من المدينة، حيث محطة شارل حلو للنقل غادرت السيارات السورية كلها. ففرغت المحطة الا من الحافلات اللبنانية التي انشغلت بنقل العمال السوريين الى الحدود الشمالية قرب طرابلس. العمال حملوا أغراضاً ومتاعاً كثيراً يشي بأنهم سيقضون أكثر من يومي الحداد المتبقيين في بلادهم. وفي الطريق الجديدة معقل مناصري الحريري، لم تظهر أي حركة في محيط مركز حزب البعث سوى تجمع بعض الشباب أمامه كمؤازرة مدنية للشرطة. حتى المارة تفادوا النظر الى اللافتة الزرقاء التي كتب عليها"مركز حزب البعث العربي الاشتراكي"رافضين الإجابة عن أي سؤال يتناول ما حدث هنا بالامس. يدّعون انهم غرباء عن المنطقة. حتى ناطور المبنى المقابل للمركز، والذي جلس في الشمس مع ابنه ادعى أنه كان مسافراً ووصل لتوّه! ملقياً نظرة خاطفة على"جيب"الدرك ليتأكد أنه لم يقل ما يغضب من فيه. وحده فرن المناقيش عرف حركة شبه عادية. فالزبائن الدائمون من طلاب الجامعة العربية المحاذية غائبون اليوم حداداً، أمّا البقية القليلة فتأكل بصمت ثقيل. لا أحد يعلم من رشق مركز الحزب بالحجارة، وأحرق الاطارات أمامه أو بالاحرى لا أحد يريد أن يعرف. المارة الذين اتشحوا بالسواد مثل شرفات المنازل وأعمدة الكهرباء على امتداد الطريق الجديدة يكتفون بالتعبير عن حزنهم العميق. على بعد نحو 500 متر من مركز حزب البعث، وقرب الملعب البلدي حيث وجود القوى الامنية بدا أقل وطأة تجمهر عشرات الشباب يوزعون صور الرئيس الراحل. مظاهر الحداد بدت جلية على الوجوه والاماكن. فمجالس العزاء تنتشر في زوايا الشوارع المتفرعة والمعزّون لا يعرفون بعضهم بعضاً بالضرورة. هم جيران ووجوه ألفوها في الشارع ربما لكنهم أيضاً مارة استبدلوا التحية بعبارات العزاء. وصور الحريري، المختلفة معلقة على الجدران والشرفات وواجهات المحلات. حتى محل الاشرطة استبدل صور الفنانات بورقة النعي وصورة للحريري بدت بيروت خلفه تشع بأنوارها وعبارة"قولنا والعمل"المقتبسة من النشيد الوطني. الصور الشخصية المرفقة بالانجازات لم تقتصر على هذه، فقد علق سكان أحد المباني صورة تظهر الوسط التجاري والمرفأ والمدينة الرياضية وطريق المطار وهي كلها أعمال انجزت في عهد الراحل. هذه مفخرة البيروتيين الذين تجمعوا في تظاهرة صغيرة حاملين الصور وعاصبين رؤوسهم بالشرائط السود. وانهمك بعض الشبان بتعليق مكبرات الصوت على السيارات لتلاوة القرآن الكريم الذي رددت أصداء آياته مآذن بيروت كلها. أما موقع الانفجار الذي تحوّل"محجة"للبنانيين من كل الطوائف فبقي مضروباً بطوق أمني مشدد. وبكى الزائرون وكلهم بثياب الحداد تأثراً"ليس على الفقيد وحده وإنما على البلد كلّه"كما قالت سيدة في الموقع. وراح الحاضرون ينقلون نظرهم بين مبنى السان جورج الذي بدا خارجاً لتوّه من الحرب ومبنى الفينيسيا الذي فرغ من نزلائه ولم يبق من زجاجه شيء والذهول سيد الموقف. وعلى بعد شارعين حيث المحلات الراقية ك"أونغارو"و"سونيا ريكيل"وشركتا السيارات الفخمة"انفينيتي"و"بورشه"عادت الواجهات فارغة تنتظر من يملأها من جديد. فهذه الماركات العالمية سحبت بضاعتها من السوق بين ليلة وضحاها. استفاق اللبنانيون امس على بلد من دون رفيق الحريري فزاروا الموقع الذي وقف فيه ذات مرة وأعلن عزمه على بناء وسط بيروت ليفخر به أحفاده ويقولوا:"جدي عمّر". لم يبق للبنانيين الا ان يصوّروا الموقع بكاميرات جوالاتهم... لذكرى عساها لا تعاد !