زمن قصير مر على الانتخابات العراقية ليس بالوقت الكافي لتلمس آثار هذا الحدث وانعكاساته، لكن يمكن القول إن ثمة جديداً يتضح شيئاً فشيئاً في سورية يفوق ما أسفر عنه سقوط بغداد لجهة حصول تطورات فكرية لا تزال غير نهائية ومفتوحة على مزيد من الاجتهادات. إطاحة صدام حسين هزت بقوة نموذج الحكم الشمولي، إن لم نقل أسقطته عملياً في منطقتنا، بعد سقوطه المدوي في شرق أوروبا، وطرحت على الملأ نتائج فشل النظام الاستبدادي وإخفاقه في قيادة المجتمع وإنجاز برامجه التنموية، وأبانت ما أفضى إليه تركز الثروة ورأس المال بيد سلطة كلية تحتكر كامل الحياة السياسية، من إفساد وتخريب للبنية الوطنية وتدمير خلايا النمو والتجدد في المجتمع. الانتخابات العراقية أحدثت بدورها نقلة جديدة ومهمة لتحرير الفكر السياسي من الاندفاعات الإيديولوجية العمياء ومن بعض الاختلاطات والتشوهات، فطرحت على بساط البحث حزمة من المفاهيم والتصورات ما كان لها أن تُطرح قبل ذلك بهذا الوضوح وتلك الجرأة. فأولاً، حسم الزخم الشعبي الذي وسم هذه الانتخابات مسألة إشكالية راهن الكثيرون عليها، تتعلق بدور التهديدات الإرهابية واحتمال تصاعد عمليات التفجير والقتل في إخافة الناخبين وإرغامهم على الاعتكاف في بيوتهم. وتأثراً بما أظهره العراقيون من إصرار والتزام عميقين بطريق التحول الديموقراطي، يمكن أن تكتشف في أوساط النخب السورية تنامي حال من الجرأة في نقد ما يسمى ظاهرة المقاومة العراقية، وبت تلمس حماسة أقل وأحياناً فتوراً ملموساً في الدفاع عن العمليات الانتحارية خاصة تلك التي تجري ضد المدنيين والشرطة العراقية، كما ثمة أسئلة أثيرت اليوم ما كانت لتثار سابقاً حول جدوى هذه العمليات وماهية المشروع السياسي الذي يتطلع المقاتلون لبنائه في حال نجحوا في طرد الاحتلال، وأيضاً حدود مسؤوليتهم من احتمال اندلاع حرب طائفية وصراعات قومية لا تبقي ولا تذر، قد تدفع المجتمع العراقي الى التشذرم والانقسام وهو ما يسعى إليه أعداء العراق. ثانياً، أعادت الانتخابات العراقية إلى الواجهة أولوية المسألة الديموقراطية ودورها المفتاحي في إنجاز مختلف المهام التاريخية، الوطنية والقومية والتنموية، بل لنقل إنها أربكت بشدة تصورات إيديولوجية اعتاشت عليها قوى عديدة لسنين طويلة، توسلت القضية الوطنية وذريعة الحفاظ على السيادة والاستقلال ودرء الأخطار الخارجية لنبذ الحياة الديموقراطية وتبرير القمع والاستبداد. واللافت اليوم أنه لم يعد يقنع أحداً تكرار كلمة الاحتلال لتسويغ رفض العملية الديموقراطية، وقد ظهرت هشة ومليئة بالمتناقضات محاولة تضخيم الفوارق الواهية بين التجربتين الفلسطينية والعراقية لتبرير تأييد الأولى ورفض الثانية، بل بدا للعيان أن القصد من إقحام كلمة احتلال في كل فكرة تتعلق بالوضع العراقي هو التخلص من وطأة الاستحقاق الديموقراطي ولإرغام"الذات"قبل الآخرين بالاقتناع بفكرة أن الوجود الأميركي في العراق هو وحده أساس الداء والبلاء وأن مواجهته يجب أن تكون المهمة الأولى التي لا تقبل التأجيل أو التفكير بغيرها!. يبدو أن التعبئة الإيديولوجية التي كانت سائدة في سورية للنظر إلى الوضع العراقي وفق ثنائية ساذجة، ثنائية وطن واحتلال، انحسرت اليوم ولم يعد يلقى التسليم والاستحسان تصنيف الناس الى مناهض للاحتلال ومتعاون معه، وصرت تجد أعداداً متزايدة من البشر تتفهم التعاطف مع إرادة أكثرية العراقيين وتؤيد انتخاباتهم، كما لم تعد توصف كمتخاذل حين تدين أساليب الخطف والذبح والتفجيرات العشوائية وترفض تهديدات التطرف الأعمى الذي يكفّر الديموقراطية ويحلل قتل كل من يسعى الى صناديق الاقتراع. بل على العكس صارت مسموعة الدعوة الى أولوية أشكال النضال السلمي والمدني لردع الاحتلال وتعرية أغراضه تمهيداً لإخراجه من أرض العراق. ثالثاً، المعروف أن للسوريين حساسية خاصة ضد التدخل الأجنبي ويظهرون عداءاً واضحاً للدور الأميركي في المنطقة، حتى لو ارتدى عباءة الحرية ونصرة حقوق الانسان. ومع ذلك ثمة قبول اليوم لأن يجاهر أحدهم بفكرة أو اجتهاد، كانا يعتبران في ما مضى نوعاً من الكفر، عن ضرورة بقاء قوات الاحتلال الأميركي لبعض الوقت حتى يتمكن الشعب العراقي من بناء مؤسسات قادرة على ضبط أمن المجتمع وإدارة الدولة. ويحاول آخر تدعيم هذه الفكرة بالبحث عن أجوبة استناداً الى شعار طالما استقوت به النخب السورية ورفعته على رؤوس الأشهاد في"الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً"، متسائلاً ما إذا كان إخراج قوات الاحتلال اليوم يضمن تطبيق هذا الشعار أم العكس، وما حدود الأمل بعدئذٍ أن يبقى العراق المستقل موحداً أرضاً وشعباً؟! هل يكفي طرد القوات الأميركية كي تعود مياه العراقيين إلى مجراها أم يفضي الأمر اليوم الى تقسيم فوري للبلاد على قاعدة انعدام الثقة بين مكونات المجتمع المتعددة، وتالياً ترجيح اللجوء من جديد الى لغة الحديد والنار وحمامات الدم لإعادة شماله لجنوبه وشرقه إلى غربه؟ ثم يتساءل ألا يجب أن نأخذ في الاعتبار أن العراق المستقل والمنهك قبل قيام دولة قادرة سوف يشجع كل طامع للعب في مصيره والتأثير على مستقبل تطوره، إن من بعض دول الجوار أو حتى من إسرائيل ودول أجنبية أخرى؟... صار بالإمكان أن تسمع في سورية بعد الانتخابات العراقية عبارات متنوعة تربط طرد الاحتلال بتحرير إرادة الانسان وبناء مجتمع المواطنة كشرط لا بد منه، كي تتمكن التكوينات المتنوعة للمجتمع العراقي من تجاوز حساباتها الضيقة ومعالجة أوضاعها المفككة بتقارب طوعي يذود عن مصالحها المشتركة، وليغدو الحديث عن أهمية العملية الديموقراطية أقوى وأشد وقعاً في بناء خطاب صحي وندّي مع الأقليات القومية التي تشاركنا العيش على هذه الأرض منذ مئات السنين، وبأن حريتها من حريتنا، ومستقبلها جزء عضوي من مستقبلنا. رابعاً، ساهمت الانتخابات العراقية في تنامي وعي صحي يثق بدور الناس وقدرتهم على تقرير مصائرهم، لتوجه صفعة قوية الى الوعي الزائف عن بشر قصّر ودون سن الرشد، وترد على العقلية الوصائية التي دأبت على خلق شعور عام بدونية المواطنين وبأنهم عاجزون عن اتخاذ القرارات السليمة دون وكيل. اليوم يفيق الناس في سورية، وإن بتثاقل، من خدر الدعاية والشعارات الإيديولوجية، وشيئاً فشيئاً تختلط أحاسيسهم الديموقراطية بشعور عميق بمرارة الحرمان. فلا شك أثارت مشاهد العراقيين وهم يتقاطرون الى صناديق الاقتراع همومهم الديموقراطية وكشفت عمق معاناتهم من غياب الحريات المزمن، وربما يفاجئك أن تسمع أصواتاً عديدة تحسد العراقيين على الطريقة التي جرت بها العملية الانتخابية وكيف تقدموا بمنتهى الشجاعة، رغم التهديدات والشروط الأمنية القاسية لممارسة أحد حقوقهم وتقرير مصير بلدهم ومستقبله، وهنا يعني الكثير حين تتجرأ اليوم مثل هذه الأصوات وتغامر في الكشف عن مشاعرها والتعبير الصريح عن مواقفها وقد اكتوت بنار القمع وقهر الرأي الآخر لسنين طويلة!. لقد هزت الانتخابات العراقية العقلية السياسية العتيقة وأظهرت حجم الهوة بينها وبين المجتمع، ويحتاج جسرها إلى ما يشبه ثورة في المفاهيم وطرائق التفكير، بداية التحرر من أوهام الإيديولوجيات وتنمية الثقة بدور الانسان الحر بوصفه المحرك الرئيس لكل تحدٍ وتطور. لقد جربت المجتمعات العربية كل الخيارات الأيديولوجية، بقديمها وحديثها، وكانت النتائج مخيبة للآمال، فلا الأرض تحررت ولا الوحدة القومية أنجزت ولا ارتقى الإنسان إلى مجتمع العدالة والحرية. ونظرة متأنية ومتفحصة إلى هذه النتائج التاريخية والى مأثرة العراقيين اليوم، تسقط الكثير من الأوهام المعششة في الأذهان وتكشف، في الوقت ذاته، وضوح المشكلة وأنها تعود أساساً إلى انعدام الثقة بالإنسان، وإلى غياب الحريات والتعددية السياسية، وإلى مناخ التسلط والاستبداد.