لولا تأخر صدور قوانين حماية الملكية الفكرية التي تحمي افكار البشر من السرقة والاستغلال، لتحول"عم فتحي"صاحب"عربة"الكبدة الاسكندراني الشهير في حي باب اللوق الشعبي الى ملك الكبدة من دون منازع، ولكان"الجحش"اختصاصي الفول والفلافل في السيدة زينب متربعاً على عرش أثرى أثرياء العالم متفوقاً على بيل غيتس والملكة إليزابيث. "عربات الكبدة والسجق"التي لا يخلو منها شارع، ومحلات الفول والفلافل التي يزيد عددها بزيادة عدد المواليد المذهل، كما صاحبات اواني الطبخ العملاقة المحملة بطبقات الكشري اللذيدة، أو المتخمة بحساء العدس المُغري المنتشرات في الحارات والازقة... كلهم سبقوا"السيد مكدونالدز"، ومستر"كي إف سي"والسادة"برغر كينغ"، و"ماك برغر"، وكل افراد عائلة برغر متعددي الجنسيات، الى عالم الFAST FOOD أو الوجبات السريعة. وعلى رغم أن المقارنة الاقتصادية بين الوجبات المصرية السريعة والوجبات المتعددة الجنسيات - أو بالاحرى الأميركية - السريعة ترجح كفة الأولى، ينظر المصريون، لا سيما الشباب والاطفال، الى الأخيرة بعين الاشتياق والاعجاب. فسندويش الكبدة الاسكندراني يبيعه"عم فتحي"ب75 قرشاً، في حين أن سندويش ال"تشيز برغر"لدى"مكدونالدز"مثلاً لا يقل عن خمسة جنيهات، أي ما يزيد على خمسة أضعاف سندويش عم فتحي. خضع لغسيل معدة... وعلى رغم أن كلاً من السندويشين قد يؤدي بآكله الى اقرب وحدة سموم في مستشفى عام، إلا أن"التسمم بشياكة افضل من التسمم بشكل غير لائق"، يقول حسين 22 عاماً وهو طالب جامعي مجرب لكل انواع الوجبات السريعة، وضحية حالتي تسمم متفرقتين. يضيف:"أصبت بحالة تسمم عنيفة قبل نحو سبعة اعوام، فقد أكلت"ساندويش سجق"من احد الباعة الجوالين اثناء عودتي من المدرسة، كاد يودي بحياتي لولا غسيل المعدة الذي خضعت له". ويستطرد حسين شارحاً خبرته في الوجبات السريعة والتسمم: "في العام الماضي، تناولت وجبة دجاج محمر في محل مشهور جداً، وحدث لي الشيء نفسه، لكني اعترف بأنني شعرت بنوع من الفخر وأنا اخبر الطبيبة بأنني اكلت"تشيكن سبايسي"، عكس المرة الاولى حين طأطأت رأسي وأنا أعترف بتناول السجق البلدي". وبعيداً من حكايات التسمم وغسيل المعدة، يستمر التكاثر المذهل لمحلات الوجبات السريعة التي يتخصص اغلبها في بيع فطائر مصنوعة من قطع غير معلومة المصدر من اللحوم تحت مسمى"البرغر". ويصعب على سكان القاهرة نسيان المهرجان الضخم والاحتفال التاريخي الذي شهده حي شبرا الشعبي قبل نحو خمس سنوات في مناسبة دخول شبرا التاريخ من اوسع ابوابه حين اعتلت صورة الرجل الأجنبي ذي اللحية المدببة محلاً استراتيجياًً في هذا الحي العريق معلناً بداية عصر جديد هو عصر"كنتاكي"في شبرا. ويمكن بالعين المجردة إجراء مقارنة سريعة بين هذا ال"كنتاكي"وجاره في الجهة المقابلة في الشارع والذي يطلق على نفسه"ملك الكشري". في كنتاكي، سيراميك ملون على الارض، و"بوسترات"لاشكال سوريالية غير مفهومة على الجدران وموسيقى روك وبوب وهيب هوب تنبعث من السماعات، ونادلون ونادلات يرتدون زياً موحداً نظيفاً، وينادون بعضهم بعضاً ب"مستر"و"ميس". والأهم من كل ذلك، أن وجبات الاطفال المفرحة HAPPY MEALS محملة، إضافة الى الدهون القاتلة والزيوت المهدرجة، لعبة بلاستيكية براقة مستوردة. "ملك الكشري" اما"ملك الكشري"، فيخبط بملعقته الضخمة على الطنجرة، و"يرزع"صحن الكشري بعنف امام الزبون آمراً إياه بسرعة تناوله، لأن الزبائن يقفون في الخارج انتظاراً لمقعد شاغر. وتنبعث موسيقى شعبولاّ شعبان عبدالرحيم منافساً خبطات الملاعق المتلاحقة بتنغيمته الشهيرة"اييييه"بين كل مقطع وآخر. ويقابل توسع مطاعم الوجبات السريعة، ظاهرة بدأت قبل نحو عام. فأمام الدعوات العالمية المحذرة من خطر البدانة، وتناول الأغذية المحملة بالدهون، ومخاطر ذلك على القلب والشرايين، وأمام تنامي الاصوات الغربية الرافضة لمطاعم الوجبات السريعة الكلاسيكية التي"تقدم السم في ساندويش"، بدأت تظهر سلاسل اخرى من المطاعم والمقاهي الانيقة التي قدمت نفسها الى"فئة معينة"من المصريين رافعة شعار"الأكل الصحي". ومفهوم تلك المطاعم ل"الأكل الصحي"يقف في اغلبه عند حدود ساندويش التونة المحلاة بشرائح الطماطم بعيداً من المايونيز، أو حلقات البيض المسلوق المزين بعيدان البقدونس الخضر، او كعكة الجزر المحلاة بالعسل الأسود، وغيرها. مشكلة تلك المطاعم أنها في الأغلب تخاطب شريحة صغيرة جداً في الحجم وكبيرة جداً في القدرة المالية، وهي الفئة نفسها التي بدأت تبتعد تدريجاً عن عالم البرغر والبطاطا المحمرة. لكن ماذا عن الغالبية العظمى؟ تشير دراسة مصرية اجراها"معهد التغذية القومي"في عام 2002 الى أن"نحو 50 في المئة من النساء المصريات من سن 20 وما فوق، مصابات بالسمنة. في حين بلغت النسبة بين الرجال في الفئة العمرية نفسها نحو 19 في المئة". وفي دراسة نشرتها الصحف قبل ايام، إن"30 في المئة من المصريين بدناء". ولئلا يُظلم البرغر او تلقى لائمة شحوم المصريين ودهونهم على مطاعم الوجبات السريعة، تجب الاشارة الى حقائق عدة، فالمصريون عموماً يفضلون تناول الأطعمة الدسمة. وفي كتاب صدر حديثاً عن دار نشر الجامعة الاميركية في القاهرة عنوانه"القاهرة: الدليل العملي"وهو موجه الى السياح الذين يزورون مصر، جاء في القسم الخاص ب"الاطعمة والمشروبات":"بينما أنت في القاهرة، عليك أن تنتهز الفرصة، وتستمتع بما تنتجه مصر على مدار العام من فاكهة وخضراوات ولحوم ودواجن واسماك طازجة. وسترى بنفسك الانتشار السريع ل"لوغوهات"شعارات"مكدونالدز"، و"آربيز"، و"هارديز"، و"كي إف سي"وغيرها، وهذا إما سيفرحك أو يحزنك. ونتمنى ألا نرى يوماً تخترق فيه هذه اللوغوهات الذهبية القاهرة التاريخية يقصد الحسين وخان الخليلي وغيرها وتضيع فائدة المطاعم التي تقدم الوجبات الطازجة والصحية والشهية". لكن الاطفال المصريين الذين يحلمون بإقامة اعياد ميلادهم مع عرائس"مكدونالدز"العملاقة، أو"كتاكيت كنتاكي"الراقصة سيولولون حتماً لو اقترح آباؤهم ان يحتفلوا هذا العام مثلاً بالعيد في أحضان"الجحش"ملك الفول أو حتى"الدهان"ملك الكفتة. على أية حال، تجب الاشارة الى تجربة فريدة في مصر هي تجربة الدكتور إبراهيم أبو العيش رائد زراعة الأعشاب الطبيعية في البلاد، ومنها الينسون والكراوية والكركديه الشعبية التي يبيعها في اكياس مغلقة. في بداية التسعينات، واكب ابو العيش صرعة اخرى هي اتجاه العالم الغربي ايضاً الى الاطعمة والمنتجات الزراعية العضوية ORGANIC، فبدأ زراعة القطن بهذه الطريقة بهدف التصدير الى ألمانيا. وأمام تنامي الحركة"الاورغانيكية"في العالم وبدء وصول بشائرها الى أثرياء القاهرة، افتتح في عام 1996 محلات في أرقى ثلاثة أحياء في القاهرة تبيع الخضر والفواكة والمنسوجات الORGANIC في المعادي ومصر الجديدة والزمالك. ولأننا نعيش في زمن عجيب، فإن ما يزرعه الفلاح المصري"الغلبان"جداً من خضر لاستخدامه الشخصي، يطابق مواصفات الاطعمة الORGANIC مئة في المئة والتي تباع بأضعاف مثيلتها من الأطعمة غير الORGANIC. وهو يزرعها بتلك الطريقة وهو حزين لأنه غير قادر على إمدادها بالأسمدة الصناعية والمبيدات الكيماوية التي تضخمها في الحجم وتخربها في القيمة.