لو لم تحتل القوات الأميركية العراق، ولولا فضيحة ممارستها التعذيب في سجن"أبو غريب"، لكان أكثر من عرفوا الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو في العالم العربي، يجهلونه الآن! هذه المفارقة - معرفة فنان تشكيلي عالمي من طريق فضائح سياسية وعسكرية - تعكس صورة التقصير بالعقل العربي في وسائل الإعلام العربية. لم تكن الأعمال التي رسمها الفنان فرناندو بوتيرو حول فضيحة"أبو غريب"هي الأولى من نوعها، كما لم تكن موضوعتها، مجرد صرخة في وجه الاحتلال الأميركي والتعذيب الذي مارسه الجنود الأميركيون فحسب، بل كانت، على حد قوله،"صرخة احتجاج على كل ممارسات التعذيب التي حدثت والتي ستحدث في سجون العالم أجمع". وكان بوتيرو رسم من قبل، عشرات اللوحات التي تدين التعذيب والقتل والحروب، كيف لا وهو المواطن الكولومبي الذي عانت بلاده الحروب الأهلية قرابة نصف القرن. رسم وحشية قتل الثوار والإعدام الجماعي والتعذيب في السجون، ورسم بكل جرأة بورتريهات ساخرة لرموز عسكرية حاكمة، وما اللوحات التي رسمها احتجاجاً على فضيحة التعذيب في سجن"أبو غريب"سوى إضافة مهمة ستزيد الكثير الى ما سبقها من رسومات. تمتاز أعمال بوتيرو بشخوصها ذات الأحجام الكبيرة، فالناظر إليها للوهلة الأولى، يتصورها وكأنها رسوم كاريكاتورية. لكنه سرعان ما يتعرف إلى أسلوب فني مميز، هو ذلك الأسلوب الذي منحه شهرة عالمية واسعة. فهو من الفنانين العالمين القلائل الذين لم تبهرهم أساليب المدارس الفنية التشكيلية الحديثة، وأسلوبه الفني القريب من أسلوب الموروث الفني الإسباني منحه خصوصية واضحة تميزه عن بقية معاصريه. وكانت زيارته الأولى لباريس عام 1953 منحته أفقاً ورؤية فنية جديدة جعلته أكثر تمسكاً وتآلفاً مع أسلوبه الفني الخاص. يعتبر بوتيرو المولود في مدينة ميديلين الكولومبية في التاسع من نيسان أبريل عام 1932، من أهم فناني أميركا اللاتينية الأحياء وأكثرهم شهرة، فأعماله الفنية ومنحوتاته تنتشر في معظم العواصم الأوروبية وعواصم الأميركيتين. في فنّه موضوعات تقليدية، حياتية بسيطة لا تخلو من السخرية، تتناول مفردات الحياة المألوفة في شكل عام، وترصد السيدات بصورهن المألوفة أحياناً، وأنوثتهن المبالغ فيها في أحيان أخرى مع إضافة بعض من الفكاهة. ولعل لوحة"راقصة الباليه"التي رسمها عام 2002، ولوحة"امرأة مدخنة"عام 2004، خير دليل على تلك الفكاهة، ففي لوحة الباليه مثلاً اختار الرسام الإسباني امرأة أربعينية مكتنزة الجسم. وكثيراً ما تناول بوتيرو في أعماله الأسواق والأزقة والبيوت، و تجمعات عائلية، والفرق الموسيقية كما في لوحة"الموسيقيون"التي رسمها عام 1991. والرجل حاضر كثيراً في لوحات بوتيرو، من العسكري إلى الموظف، والعاشق، والصياد وغيرهم. من ناحية ثانية، ينغمس بوتيرو في الواقع السياسي، ليرصد تحركاته وتحولاته، كما في لوحة"مقتل بابلو اسكوبار"عام 199، وبورتريه" الطغمة الانقلابية العسكرية" التي رسمها عام 1971، وكذلك اللوحة التي لم تحمل عنواناً يميزها، هو"من دون عنوان"مكتفياً بموضوعتها التي تفضح ممارسة التعذيب الذي كانت تمارسه الشرطة الكولومبية ضد سجناء الرأي. امتاز بوتيرو برسم الملصقات، وله فيها تاريخ طويل امتد قرابة نصف القرن. وتعد ملصقاته بين الأجمل في وقتنا الراهن، من ملصقات مصارعة الثيران العديدة، المثيرة بحركاتها وشخوصها يعد ملصقا"الموناليزا"الذي رسمه عام 1977 و"رأس المسيح"عام 1976 من أشهرها وأكثرها مبيعاً. وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة الإطلاع على الجمال الفني والثقافي الذي تزخر به الحياة من حولنا حين نكون في مرحلة الصفاء الذهني كي نعرف جيداً كيف نوظف المعلومة في بناء ثقافاتنا الخاصة، وأن لا ننتظر المصائب والفضائح، كفضيحة سجن"أبو غريب"كي نعرف من هو فرناندو بوتيرو وغيره من مبدعي العالم.