أن يصدر إرهابيون إسلاميون بيان العزّة والشموخ إثر حدوث كارثة في بلاد"دار الحرب"، فهذا صار تقليداً. بالأمس كانت تسونامي، ورفْرفَت أعلام النصر عالياً إثر مصرع عشرات الآلاف من"الفاسقين والشواذ والباحثين عن ملذات... من النصارى". واليوم كاترينا، إعصار أميركا الأخير الذي أغرق بالموت والدمار مساحةً تساوي نصف فرنسا. فما ان بلغ الى مسمع الزرقاوي"قتلاهم الآلاف وخسائرهم البلايين"، على حد قوله، حتى لبّى نداء النصرة، فأبرقَ الى معلمه بن لادن و"أهلنا في فلسطين":"هنيئاً لأمة الاسلام وبشراها دمار رأس الكفر اميركا". فقد"حلّت غارة الله على اميركا وأجيبت دعوة المظلومين". شهاب الزرقاوي اللامع هذا يضيء اليوم سماء شرقنا، إذ يدورحول كوكبه عدد لا بأس به من الأقلام العربية. الركيك من هذه الأقلام كان يردد بمفردات"غير دينية"مشاعر الزرقاوي حيال كارثة كاترينا. مثل ذاك العنوان لكاتبة مبتدئة:"أللهم شماتة... شماتة.... شماتة...". ثلاث مرات شامتة من دون حياء. طقّ شرش الخجل! بجرأة الجاهل، تطلب من القارئ ان"لا يعمل نفسه عنده انسانية ويقول عيب". فالمفروض، تتابع، ان"لا نفرح بمصائب الآخرين". ولكن هذه المرة، هذه المرة فقط مثل نظرية المؤامرة التي نستعملها دائماً للمرة الأخيرة بعدما نكون نفيناها اشدّ النفي. لماذا تريد ان تفرح من غير وخزة ضمير واحدة؟ لأنها تعدّ"آلاف القتلى منهم اي قتلى الاعصار أمام آلاف القتلى في العراق، آلاف المشرّدين من الاعصار امام آلاف المشردين في افغانستانوفلسطين". تمرين ذهني أولي على الاقرار بمنطق الارهاب الثأري... انه رائج ويحيط به اجماع ثقيل وسط المبتدئين او الضعفاء من بين اصحاب الاقلام: وكله طبعاً بإسم وطنية لا يحمي حماها إلا المزيد من الكراهية المرّكزة لأميركا. لكن المدهش حقاً ان ينضم كتاب يساريون او قوميون الى هذا النوع من الإجماع. وقد عبر عنه عدد منهم اثر الاعصار، في الكتابة اكثر من التلفزيون لأول مرة تكون الشاشة أوفر عقلا من النص. كيف عامل هؤلاء الكتّاب اعصار كاترينا؟ انقضوا بضراوة على النظام الاميركي: على أوجه التقصير في بيروقراطيته ونظامه الفيديرالي، على"أقصى الدولة"في الخارج و"أدنى الدولة"في الداخل، على النظام الرأسمالي التخصصي الذي حول الدولة الى ما دون مهامها الطبيعية، على السياسة الاميركية في العراق، على لامبالاة الادارة الحاكمة، على افقار لويزيانا منذ عشرين سنة، على الفقر والعنصرية. على رايس إذ كانت تشتري حذاء، وبوش كان في اجازة.... قالوا كل هذا وكأنهم في فتح من فتوحات العقل! غزوة معرفية جديدة! فيما هي في الواقع، أي الفتوحات، نقل حرفي للمقالات الاولى التي صدرت عن الكارثة في صحف اميركا وبريطانيا خصوصا. لقد نقلوها الى العربية، فصارت من بنات افكارهم,داعمة لنظرياتهم. تماماً كما يفعل الاسلاميون بالتحديد"وشيخهم الاول سيد قطب وبإستشهاداته المنتظمة بالعالم الفرنسي فلكسي كاريل وكتابه"الانسان ذلك المجهول". أحدهم قال بأن اميركا بهذه الكارثة انما تدفع ثمن عدم توقيعها على اتفاقية كيوتو لوقف سخونة الغلاف الجوي. وهي السخونة التي افضت الى كارثة من هذا الحجم. انا شخصياً لست متأكدة من ذلك، لكن ما يستوقفني ان الكاتب الذي انقضّ بشهية غريبة على عنصرية اميركا بناء على مقالات بأقلام أبنائها، لم يقرأ أن كارثة بحجم كاترينا حلّت على لويزيانا نفسها عام 1849، وكان كل ضحاياها وقتها من الايرلنديين الفقراء. إلا ان الاهم من كل ذلك هو الحكمة التي يخلص اليها كتابنا غير الاسلاميين. كاترينا هي الثأر! اسمع جيداً. هذا ليس كلام الزرقاوي. بل عبارة لأحد ثقاتهم. الثأر ممن؟ ومن اجل ماذا؟ لا يملكون جرأة الزرقاوي ليقولوا"جهاداً"او"نصرة للمسلمين"... او ما شابه. لكنهم بفكرون بنفس طريقته: فهم مثله، الآخر عندهم واحد: لا فرق بين بوش والضحية المواطن. كلهم اميركيون"وهذه صفة كافية لنكران آلامهم، وبضراوة. وهم مثله يمتلكون نواصي الحقيقة العلمية والغيبية ولو بالنقل، ويحق لهم إضفاء المعنى على مصرع وتشريد عشرات الآلاف من المواطنين. انها انانية المهزوم ونرجسيته وغروره. صفات مطعّمة ب"نظريات"لا ينقصها غير الانتقال الى الفعل... أي الى طريقة من طرق قتل الآخر لإلحاق الهزيمة به. ليتَ كتابنا هؤلاء يجيبون لأنفسهم عن السؤال: ممن هم شامتون؟ من اجل أي غلّ يثأرون؟ هل الثأر واقع على بوش العائد الى بيته محمولا وفي احلى الهندام؟ ام على الضحايا الذين دُمّرت حياتهم؟ ماذا لو كان من بينهم ابناء"هوية"من العرب او المسلمين؟ بل ماذا لو حصلت كارثة شبيهة في بلد عربي أو اسلامي؟ ممن سيكون الثأر ساعتئذ؟ قد يجيبون بما يفي البلاغة، ولكن سوف يحكّون رؤوسهم طويلاً قبل اكتشاف ان الجواب الشافي يفترض الفصل بين شيئين: صراع الانسان مع الطبيعة وهي حالة كاترينا، وان شابَتها عيوب تنظيمية ورأسمالية متوحشة في الاغاثة والانقاذ. ثم"صراع الحضارات""فالعلاقة بين كاترينا وهذا الصرع الأخير، علاقة واهنة وإن افتُعلت. فلا هي مفيدة ولا هي مفضية الى شيء مفيد... فقط"فشّة خلق"هي ايضاً من تقاليدنا الثأرية. شيء من هذا القبيل حصل أخيراً في مصر، ومع نفس الشريحة من المثقفين ذوي الثقل. فقد اصدرت أخيراً مجموعة منهم بيانا تدين فيه عادل إمام على شريطه الأخير"السفارة في العمارة"، ودعت الناس الى عدم الذهاب الى السينما لمشاهدته. لماذا؟ لأن عادل إمام وضع كلمات من قصيدة لأمل دنقل على لسان بطله المسطول، ولأنه سخر في احد المشاهد الشيّقة في الواقع من عائلة مثقفة مناضلة شيوعية. واستنتجوا بأن الفيلم يحطّ من صورة الاثنين الشاعر والعائلة. آخر من قام بإحتجاج من هذا القبيل، ولكن على نطاق أوسع، كانت الكنسية القبطية التي شنّت هجوما عنيفا جدا على شريط"بحب السيما"لأنه، برأيها،"يشوّه صورة العائلة المسيحية المتدينة". وهؤلاء المثقفون هم أنفسهم الذين خاضوا منذ ثلاث سنوات معركة اخرى دفاعاً عن كتاب حيدر حيدر"وليمة الاعشاب البحرية"ضد الهجوم الاسلامي الأعنف عليه. وكانت حجتهم، وقتذاك: ان"الشخصية الفنية شيء... والشخصية الحقيقية شيء آخر". ماذا يحصل؟ هل يكون الارهاب انتصر، وبغفلة من وعي خصومه"المدنيين"، وقد يكون هؤلاء، وبغفلة أخرى من الزمن، من بين ضحاياه؟