عندما أعلن قبل شهرين فوز هارولد بينتر بجائزة نوبل للآداب توقعت في هذه الزاوية أن يستغل الكاتب المسرحي البريطاني فرصة تسلم الجائزة، وأنظار العالم مركزة عليه، لشن هجوم على السياسة الخارجية الأميركية، فهذا موقفه منذ سنوات، إلا انني أعترف بأنني لم أتوقع حدة الهجوم وشموليته مع قدرة هائلة على تطويع الكلمات لتنفذ الى ما لا تنفذ الإبر. أختار اليوم من خطاب بينتر، ففي حين أننا نقول الكلام نفسه منذ سنوات، فإن الوقع مختلف، والمؤلف لا يتحدث كطرف في أي قضية مثلنا، وإنما من منطلق إنساني. هو يبدأ بتأملات في فن الكتابة قبل أن يتحول الى تاريخ السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، ورأيه انها تعكس توجهاً الى السيطرة على العالم. بينتر يسجل الكذب الذي سبق الحرب على العراق ويربطه بالدور الذي اختارته الولاياتالمتحدة في العالم، ثم يعرض رؤيته لهذا الدور فيقول ان جرائم الاتحاد السوفياتي ووحشيته وقمعه الحريات مسجلة وثابتة. إلا ان جرائم الولاياتالمتحدة في الوقت نفسه سجلت في شكل سطحي ولم توثّق. ويستعرض بينتر الحملة الأميركية على نيكاراغوا وثوار الساندينستا، فهو لعب دوراً مباشراً في الدفاع عن حكومتهم في وجه الحملة الأميركية، ويقول ان الجرائم الحقيقية وفرق الموت كانت في السلفادور وغواتيمالا برعاية أميركية. ويضيف بينتر:"الولاياتالمتحدة أيدت أو أنشأت كل ديكتاتورية عسكرية يمينية في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وأنا أشير هنا الى أندونيسيا واليونان وأوروغواي والبرازيل وباراغواي وهاييتي وتركيا والفيليبين وغواتيمالا والسلفادور، وطبعاً تشيلي. ان الرعب الذي مارسته الولاياتالمتحدة في تشيلي سنة 1973 لن يمحى أو ينسى. "مئات ألوف الوفيات وقعت في هذه البلدان. هل حدثت؟ وهل يمكن ان تعزى الى السياسة الخارجية الأميركية؟ الجواب نعم، هي وقعت والمسؤول السياسة الخارجية الأميركية. إلا انكم لن تعرفوا بحدوثها". ويلجأ المؤلف المسرحي الى اللغة التي يعرف كيف يجعلها تنقاد الى المعنى المطلوب فيقول:"لم يحدث شيء. لم يحدث شيء أبداً. حتى وهو يحدث لم يكن يحدث. غير مهم. لا أحد يهتم به. ان جرائم الولاياتالمتحدة منظمة ووحشية ومستمرة، غير ان قلة من الناس تحدثت عنها". بينتر يعتبر الولاياتالمتحدة أمهر بائع في الترويج لسياستها ويتحدث عن غياب الضمير في غوانتانامو حيث يعتقل مئات منذ ثلاث سنوات من دون توجيه تهمة اليهم، ومن دون منحهم أي حقوق للدفاع عن أنفسهم. ويصر على ان هذا التصرف غير شرعي ويناقض اتفاقات جنيف. ويزيد بينتر من جرعة النقد وهو يقول ان احتلال العراق كان"عمل عصابات، إرهاب دولة يعكس احتقار القانون الدولي". ويذكر المؤلف المستمعين بأن الحرب استندت الى سلسلة من الأكاذيب، وان الهدف الحقيقي تعزيز السيطرة الأميركية السياسية والعسكرية على الشرق الأوسط بزعم تحرير شعوب المنطقة. ويسأل بينتر: كم عدد القتلى المطلوب قبل أن يتهم المسؤول بأنه قاتل جماعي ومجرم حرب؟ ويقول ان مئة ألف قتيل في العراق تكفي لتحويل جورج بوش وتوني بلير الى محكمة جرائم الحرب الدولية. إلا انه يلاحظ ان بوش كان ذكياً فلم ينضم الى المحكمة، ولكن بلير وقع ميثاقها ويرشحه للمثول أمامها. ويعيد الفائز بجائزة نوبل الى الذكرى صورة بلير بعد الحرب بقليل وهو يقبل فتى عراقياً، وكلام الصورة يصف الفتى بأنه ممنون. إلا انه حدث بعد أيام ان قتلت أسرة عراقية بصاروخ ونجا طفل بترت ذراعاه، وسمع وهو يسأل:"متى أسترد ذراعيَّ؟". في هذه المرة الصورة دفنت داخل الجرائد وبقي بلير بعيداً. بينتر يعرض بعد ذلك ان يكتب خطابات بوش، ويسخر من تدينه، فيقترح على الرئيس ان يخطب قائلاً:"الله طيب. الله عظيم. الله عظيم. إلهي عظيم. إله بن لادن سيئ. انه إله سيئ. إله صدام كان سيئاً مع انه لم يكن له إله. كان بربرياً، إلا اننا لسنا برابرة. أنا الرئيس المنتخب لديموقراطية تحب الحرية. اننا نقتل بعطف بالكهرباء ونقتل بعطف بالحقن السامة. إننا مجتمع عطوف. اننا أمة عظيمة. لست ديكتاتوراً. هو ديكتاتور. كلهم كذلك. عندي السلطة الأخلاقية. هل ترون هذه القبضة؟ هذه هي سلطتي الأخلاقية، وإياكم أن تنسوا ذلك". أتوقف هنا لأقول ان هارولد بينتر قال ما نقول جميعاً عن السياسة الخارجية الأميركية، إلا انه قاله في شكل أفضل، خصوصاً في النص الأصلي بالانكليزية، ثم انه فاز بجائزة نوبل للآداب، ونحن لم نفز بها. في مقابل إعصار بينتر، بدا أخونا محمد البرادعي، رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، نسمة هادئة وهو يتقبل جائزة نوبل للسلام. غير ان كلامه كان في أهمية كلام بينتر وهو يحذر من وجود 27 ألف رأس نووي في العالم. ودعا الدكتور البرادعي الولاياتالمتحدة والدول النووية الأخرى حول العالم الى خفض مخزونها والعمل على مكافحة الفقر. على من تقرأ مزاميرك يا دكتور؟ الولاياتالمتحدة ترى قنابل إيران غير الموجودة، وتعمى عن ترسانة اسرائيل على رغم وجود حكومة يمينية متطرفة هناك تعمل عمداً وعن سابق تصور وتصميم لتقويض السلام. غير انني اختتم بتحية ألف مفكر ومثقف في اسرائيل وخارجها وقعوا عريضة تعارض فوز اثنين من اليهود المتطرفين بجائزة نوبل في الاقتصاد وتصفهما بأنهما من دعاة الحرب ويريدان استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية. جائزة الاقتصاد ذهبت الى توماس شيلينغ وروبرت اومان، وكلاهما من طينة آرييل شارون ويروجان لسياساته ويوظفان نظرياتهما في الاقتصاد لتبرير استمرار الاحتلال. أرشح موقعي العريضة لجائزة نوبل للسلام السنة المقبلة، إلا انني أختتم بالصديق محمد البرادعي الذي وصفت جريدة بريطانية فوزه بالقول في عنوانها الرئيسي"الرجل الذي تحدى بوش وفاز".