نفضت لجنة جائزة نوبل الغبار عن الرجل الماكث في منزله في مدينة لندن ومنحته جائزتها الأهم والأشهر، جائزة نوبل للآداب للعام الحالي. من هو هارولد بينتر؟ ماذا يعمل وعمل في حياته؟ من أين هو؟ هل نعرفه أم لا في العالم العربي؟ هل يستحق الجائزة أم لا يستحق؟. هذه الأسئلة تطرح عادة في مثل هذا الحدث الأدبي الأشهر في العالم. وهي مشروعة جداً بالقدر الذي هي حقيقية وجائزة (بكسر الهمزة). وقبل الدخول في الإجابة عليها لا بد من نبذ الآلام التي سيصاب بها بعض كتاب العالم العربي الذين يعتبرون أن الجائزة الأشهر يجب أن تكون من نصيبهم. وأنهم وحدهم الأجدر بنيلها من بين كتاب العالم الحر. وكنت قبل أيام في مداخلتي قد قلت ان أدونيس (علي أحمد سعيد ) لا يستحق هذه الجائزة ولا يمكن أن تمنح له حتى في السنوات القادمة، ليس لأنه غير مبدع، بل لأنه لا يعبر عن معاصرة الثقافة العربية بسبب غوصه بالتاريخ العربي دون أي تجديد في خطابه الشعري، وذلك على خلاف شعر محمود درويش المتجدد دوماً والذي يعتقد الكثيرون من مثقفي العالم أنه يستحق هذه الجائزة. ومع ذلك فهو لا يجند عصاباته في الصحافة والإعلام قبل توزيع نوبل بقليل من أجل تسويق صورته على أنه الفائز، على أساس، أن هذا التسويق والتبخير والتبجيل يمكن أن يؤثر على لجنة الجائزة لتمنح له. ربما لم يكن ضرورة الحديث عن أدونيس والجائزة، لولا أن عصابات الثقافة العربية باشرت حملة قبل إعلان الفائز بتسويق أدونيس، وربما، بتمني مباشر منه الى هؤلاء الأتباع. وهم حتماً سيقومون بالكتابة عن هارولد بينتر، وقبل الهجوم أود القول بأنه من الناحية المهنية الصرفة، لا يمكن التبرير لمن يقومون كل عام بالتسويق، الكتابة عن أدونيس بهذا الشكل المقيت، ذلك أن النتائج دوماً تكون سلبية على الرجل نفسه. من هو هارولد بينتر، ومن أين هو؟. ولد هارولد بينتر في اليوم العاشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1930، الجائزة أتت وكأنها هدية جميلة له في عيد ميلاده الخامس والسبعين، في حي «هاكني» بمنطقة «أيست أند» اللندنية المكتضة بالسكان، أو الشعبية والتي تعج بالمصانع على حد التعبير الإنكليزي. وهو الابن الوحيد لعائلة يهودية فقيرة، كان والده يعمل بالخياطة في أحد المعامل وأمه ربة منزل متواضعة الثقافة، وهذا الأمر ساعد بينتر على أن يحتفظ بالكثير من الصور التي بقيت محفورة في ذاكرته لغاية اليوم، وأثرت في مسار حياته ككاتب للمسرح. الروائح النتنة التي كانت تنبعث من مصنع الصابون الذي كان موجودا في الحي الذي كانوا يقطنونه يومذاك. الى بعض السمات التي طبعت تلك المرحلة من تاريخ أوروبا، مثل، الحرب الأهلية الإسبانية، والبطالة، والأزمة الاجتماعية والاقتصادية، وصعود نجم النازية في ألمانيا وبعض أوروبا، الى الحملة الشرسة المعادية للسامية في بريطانيا حينذاك. في العام 1940 ، غادر هارولد مع والديه من لندن هاربين من القصف الجوي الألماني الذي كان عنيفاً وعشوائياً. وأثرت فيه كثيراً، على المستوى الإنساني، عمليات القتل المنظم، أو ما اصطلح على تسميته بالإبادة، التي تعرض لها اليهود في ألمانيا. وبسبب ردة الفعل التي حصلت عنده تجاه كل ما هو عسكري رفض في العام 1948 أن يقوم بالخدمة العسكرية، وهو قال عن هذه المرحلة «إن إعادة التسلح مسألة مقيتة، فقد عيت آلام الحرب والرعب الذي تسببه ولن أذهب مهما كانت المبررات قوية للمشاركة في السلك العسكري، فقد قلت لا، وسأقول لا مرات عدة، فالأمر يبدو بالنسبة لي سخيفاً جداً » بعد ذلك بقليل، بدأ هارولد بينتر بدراسة الفن الدرامي في لندن. بعد حوالي ثلاث سنوات كاملة، بدأ هارولد العمل كممثل تحت اسم مستعار هو ديفيد بارون، ونشر بعض القصائد القصيرة وتبعها بكتابة رواية بعنوان (الأقزام ) استمد موضوعها الكثير من سيرته الذاتية وتجربته في سنوات الحرب والتشرد. وما لبث بعد ذلك أن كتب أولى مسرحياته التي كانت بعنوان (الغرفة ) وقد قدمت على خشبة مسرح البريستول للمرة الأولى في العام 1957 ، وكانت الغرفة السبب في لفت الأنظار الى موهبته المسرحية حيث أعيد طلب كتابة مسرحية ثانية من قبل المنتجين، فكانت مسرحيته الثانية بعنوان (حفلة عيد الميلاد ) في العام 1958 حيث عرضت في مسرح كامبردج وأكسفورد، وبعد ذلك تعرضها بشكل هام جداً على خشبة مسرح الليريك تياتر في لندن ولكن المسرحية لم تدم أكثر من أسبوع واحد بسبب تفضيل الناس لأعماله الإذاعية على أعماله المسرحية، ومن هذه الأعمال الإذاعية بالأخص «ألم صغير» و«ب ب» في العام 1959. هذا الأمر لم يثنه عن كتابة المسرحيات والكتابة الى المسرح، ولذا، فإن هارولد بينتر وافته الشهرة الفعلية في العام 1960 مع مسرحيته الذائعة الصيت « حارس السيارات» و «المجموعة» 1961 ، والعشيق 1963 ، و «حفلة الشاي» و «العودة» 1965 . وفي المسرحية نفسها التي اقتبسها بنفسه للسينما بعد ذلك بعدة سنوات مع المخرج الإنكليزي الأشهر جوزف لوزي، الذي اشتغل معه أيضا فيلما ثانياً بعنوان « الخادم» في العام 1962 ، وأيضاً فيلمي «الحادث» 1967 ، و « الرسول» 1969. ماذا يعمل؟ الى جانب الكتابات المتوالية للمسرح وللسينما، حيث اشتغل بينتر أهم الأفلام للسينما الإنكليزية في تاريخها، كان الى جانب عمله هذا، يمثل، خاصة في المسرحيات التي كان يكتبها هو، هذا، قبل أن يصبح هو بنفسه مخرج مسرحياته والممثل فيها الى جانب الفرقة التي كان يتعامل معها. الى جانب العمل الإذاعي، وعمله السينمائي حيث اشتغل بينتر على رواية مارسيل بروست (البحث عن الزمن الضائع والى جانب هذه الأعمال الزاخرة أصبح في آخر أيامه معارضا شرساً لسياسات بلير والحكومة الأميركية في العراق وغيره من البلدان. مدافع عن الحريات وحقوق الإنسان بين عامي 1998 - 9991 نشر بينتر كتابا، ضم في متنه عدة قصائد ومقالات سياسية، فمنذ أواسط الثمانينات أصبحت السياسة شغله الشاغل. حيث عرف عنه معارضته الشرسة لكل من مارغريت تاتشر والرئيس الأميركي ريغان، كما معارضته الحالية لتوني بلير وجورج بوش الابن، هذه المعارضة التي قادته الى النزول للشارع والمشاركة في مظاهرة دعت الى وقف الحرب على العراق، كما في مظاهرات كثيرة كانت تطالب بحرية التعبير وحقوق الإنسان المسلوبة في تشيلي في ظل حكم الطاغية بينوشيه. وهو في شهر آذار الماضي كان قد ألقى تصاريح عدة حول الحرب في الشرق الأوسط، منها قوله «لقد ذهبنا ونحن نحمل للشعب العراقي العذاب والقنابل العنقودية واليورانيوم المخصب وعمليات القتل والإبادة الجماعية، ذهبنا إليه نحمل له البؤس والتشرد. وكل هذا يتم تحت ستار الديمقراطية والحرية في منطقة الشرق الأوسط». هل نعرفه في العالم العربي؟. - مما لا شك فيه، أن هارولد بينتر أحد أشهر كتاب المسرح في العالم، وهو الى جانب عدد من رفاقه يمثل «جيل الغضب» في مرحلة الستينات من القرن المنصرم. وهو الى ذلك، يعتبر منذ نصف قرن، أحد أهم كتاب المسرح بعد صموئيل بيكيت الإنكليزي أيضاً. أما حول الحجة الأساسية التي يستعملها المثقفون في العالم العربي كلما سلمت الجائزة الى كاتب، وهي أنه غير معروف، فهي مع بينتر ستكون حجة واهية وبلا معنى، إذ ان بينتر مترجم الى العربية ومنذ زمن، فقد ترجم أكثر من عمل له في مصر، وقام المجلس الأعلى للثقافة والفنون في الكويت منذ عدة سنوات بترجمة أكثر من مسرحية له ضمن مشروع «المسرح العالمي» وهو مترجم الى أكثر من ثلاثين لغة حية ومعروف في كافة أصقاع العالم. ويمكن اعتبار بينتر من أكثر الكتاب المعروفين قبل نيلهم نوبل، وهو يشبه غارسيا ماركيز الذي لم تضف له الجائزة أية شهرة إضافية. بينتر بهذا المعنى أكبر من أن ينال جائزة بهذا الحجم، وهي أتته متأخرة على الأقل ربع قرن من الزمن. ومع ذلك هو أكثر من يستحق هذه الجائزة. عند الإعلان عن فوزه بالجائزة، وبعد أن قال لناطق باسم الأكاديمية السويدية ان هاولد بينتر حصل على الجائزة لأنه «يكشف المساحة الكامنة خلف الثرثرة اليومية ويفرض الدخول الى غرف القمع المغلقة»، لم تنقض ساعات قليلة حتى كان مصوري وكالات الأنباء ومراسلي الصحف الكبرى يقفون أمام بيته في إحدى ضواحي لندن، أمام الرجل المصاب بالسرطان والذي يقف على الخامسة والسبعين دون أن يرف له جفن. بعد أن فتح الباب، خرج ووقف أمام العدسات وقال للصحافيين، شكرا لكم ودخل، دخل ربما ليكتب مقالا ضد الحروب أو مسرحية تكشف عري الإنسان وتفضحه.