الأيام الثلاثة التي شهدتها"ندوة الشعر العربي الحديث"التي نظمها"المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب"في الكويت كانت استثنائية شعرياً نظراً الى السجالات التي دارت خلالها وتناولت كلها معظم القضايا الملحة التي يحفل بها معترك الشعر العربي الراهن. وكان من الطبيعي أن تتصدر قصيدة النثر واجهة السجال الذي انقسمت فيه الآراء حولها، تأييداً لها وتحفظاً عليها. واللافت ان ما من صوت محافظ عمد الى رفضها جهاراً والى كيل الاتهامات لشعرائها خصوصاً أن ثمة شعراء معروفين بعدائهم التاريخي لها، كانوا من المشاركين في الندوة وفي مقدمهم الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي. وبدا مفاجئاً جداً على هذا المستوى موقف الأمين العام للمجلس الوطني بدر الرفاعي الذي تحدث عن ضرورة التعايش بين الأنواع الشعرية كافة، من غير أن يلغي بعضها بعضاً. ورأى ان السجال بين قصيدة النثر والشعر الموزون انتهى في العالم منذ عقود. وكان الرفاعي افتتح الندوة بكلمة أكد من خلالها ان التفكير في مصير الشعر الحديث أصبح ضرورة ملحة في سياق الاهتمام باستكشاف التيارات المستقبلية في حقل الأدب العربي. ودأب الأمين العام على حضور الجلسات السبع مشاركاً في الحوار ومعلقاً على بعض المواقف وبدا في أحيان متحمساً أكثر من المنتدين أنفسهم إزاء الأفكار الجديدة. ولعل الحوارات التي أعقبت الأوراق المقدمة والتعقيبات عليها كانت على قدر كبير من الحماسة، ولم تقتصر على طرح الأسئلة فقط بل كانت فرصة مناسبة لإبداء الرأي في أمور كثيرة ترتبط بالشعر الحديث وشؤونه. وبدت مشاركة بعض المنتدين في الحوارات مهمة مثل الأوراق التي قدموها وأحياناً أشد أهمية وجرأة. وعلى رغم الجو"الديموقراطي"الذي ساد الحوارات فإن الأصوات التي شاركت فيها غدت منقسمة الى جبهتين إن أمكن التعبير:"جبهة"حداثية وپ"جبهة"محافظة ولكن غير تقليدية. لكن بضعة أصوات قليلة"محافظة"لم تتمكن من الدخول في السجال فأصرّت على موقفها من قصيدة النثر وعلى مفهومها التقليدي للحداثة والشعر. ولكنها لم تؤثر في المناخ السجالي الايجابي الذي ران على الجلسات كافة. أما الأمسية الشعرية الوحيدة التي شهدتها الندوة فشارك فيها شعراء من أجيال مختلفة ومدارس مختلفة: نزيه أبو عفش سورية، عبدالكريم كاصد العراق، ظبية خميس الامارات، نجمة ادريس الكويت، فاطمة ناعوت مصر وجميلة الماجري تونس. وكان من المفترض أن يشارك في الأمسية الشاعر سيف الرحبي عمان لكنه تغيّب عنها. بدت الأمسية الشعرية متنوعة قصائد ومدارس وإن قرأ معظمهم قصائد نثر ما خلا بضعة قصائد"حرة"أو"مفعّلة". ولم تغب"قضية"الصراع بين قصيدة النثر والشعر الموزون عن جو الأمسية من خلال قصيدة طريفة جداً قرأتها الشاعرة الكويتية نجمة إدريس وقالت فيها:"أطلق النار على القافية/ واغرس السكين/ في لحم الوزن/ أعِدَّ عصير الدم/ لوليمة المساء/ يرقص"الخليل"/ مع سوزان برنار/ على موسيقى"البوب"/ ويعرج...". وسوزان برنار، الناقدة الفرنسية التي تعرف شهرة عربية كبيرة منذ الستينات كانت بمثابة الضيف الحاضر ? الغائب من شدة ما ذكرها المنتدون والمحاورون مركزين على كتابها الذي بات مرجعاً كلاسيكياً رئيساً لقصيدة النثر وعنوانه"قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا"وقد صدرت ترجمة كاملة له في القاهرة. لماذا نحتاج الى الشعر؟ ومن مفاجآت الندوة الكلمة التي ألقاها الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي معلناً فيها ما يشبه موقف اليائس من مستقبل الشعر أو موقف الخائف على مصير الشعر، متطرقاً الى مقولة"موت"الشعر. واستهل كلمته الجميلة وعنوانها"لماذا نحتاج الى الشعر؟"قائلاً:"لكي نجيب على هذا السؤال الصعب: لماذا نحتاج الى الشعر؟ ينبغي أن نبدأ بالإجابة على سؤال أصعب هو: ما الشعر؟ ... السؤال مهم والدليل على هذا انه يطرح بقوة منذ سنوات، وفي صور مختلفة. فالشعر الآن لم يعد يتصدر المشهد الثقافي في معظم بلاد العالم كما في القرنين الماضيين وفي العصور الماضية في شكل عام .... نحن لا نستطيع ان نقول ان الشعر ما زال يلعب هذا الدور الآن. ومن هنا ظهر عندنا وعند غيرنا من يتحدثون عن موت الشعر. ومن يرون ان الشعر فن قديم يرتبط بالمجتمعات الرعوية والزراعية، وبحياة الانسانية في بساطتها الأولى ...."لقد تطور الأدب وتطورت الثقافة، فحل التاريخ محل الاسطورة، والعلوم الطبيعية محل المعرفة القديمة وأصبحنا في عصر الرواية"كما يقول جابر عصفور. لقد مات الشعر إذاً، لأننا نحتاج الآن كما يرى هؤلاء النقاد الى معرفة موضوعية نفهم بها قوانين الطبيعة والمجتمع والنفس لنسيطر عليها ونعالج مشكلاتها. وهذا ما لا يستطيع الشعر أن يقدمه لنا، لأنه غير معني بالحقيقة الموضوعية ولا حتى بتصوير الواقع أو تحقيق التواصل مع الناس. فمن الطبيعي أن يتراجع الشعر وأن يتخلى عنه الناس ويفقدوا الشعور بالحاجة اليه. هل يكون هذا الرأي تسجيلاً لحقيقة موضوعية لا تملك إلا أن نسلم بها، أم تعبيراً عن موقف سلبي لا يختلف عن المواقف السلبية التي عبرت عنها بعض التيارات الفلسفية والدينية التي جعلت الشعر نوعاً من المعرفة الوهمية تضلل الانسان وتثير فيه نوازعه الشريرة على نحو ما نجد في جمهورية أفلاطون؟ هل يتناقض الشعر مع العلم حقاً، أم انه في كل بساطة معرفة خاصة تختلف عن العلم من دون أن تتناقض بالضرورة معه؟ وكيف نصف هذه المعرفة الشعرية وكيف نصنفها؟ ... كيف إذاً نفسر غياب الشعر أو تراجعه أو انحساره في هذه المرحلة التي نمر بها الآن؟ هذا سؤال آخر ينبغي لنا أن نختبر مدى صحته. من المؤكد أن الشعر لم يعد يحتل المكان الذي كان يحتله من قبل. فقد زاحمته فنون أخرى جديدة لغوية وغير لغوية. لكن هذه الفنون لم تحل محل الشعر وإنما شاركته همومه وجمهوره ووظيفته. لم يعد الشعر وعظاً أو تعليماً أو تأريخاً لأن هناك فنوناً أخرى تؤدي هذه الوظائف. من هنا انحسر الشعر عن مجالاتها لينفرد بمجاله الخاص. الشعر أصبح شعراً فحسب. إلا ان الشعر لم يعد محصوراً في القصيدة، وإنما تجاوزها الى القصة والرواية وانتقل من فنون اللغة الى بقية الفنون. وتراجع الشعر في هذا العصر لا يعود الى طبيعة العصر، وإنما يعود بالاحرى الى عجزنا عن تطويع أدوات العصر، واستخدامها في نشره واذاعته". ستة محاور توزعت الندوة على ستة محاور: حركة الشعر العربي الحديث: النشأة حلمي سالم باحثاً، وهب رومية معقباً، تيارات الشعر العربي الحديث شربل داغر باحثاً، نسيمة الغيث معقبة، الشعر العربي الحديث وقضايا العالم العربي نور الهدى باديس باحثة، عباس الحداد معقباً، الشعر العربي الحديث: الضرورة والاستمرار عباس بيضون باحثاً، محمد مفتاح معقباً، تحولات اللغة الشعرية الجديدة محمد عبدالمطلب باحثاً، عبده وازن معقباً، الموسيقى الشعرية في الشعر العربي الحديث مصطفى عراقي باحثاً، علوي الهاشمي معقباً. أما الحلقة النقاشية التي أدارها الأمين العام بدر الرفاعي فشارك فيها الناقد سعد البازعي والشاعر قاسم حداد والشاعر فاروق شوشة. وفي الختام تلا مدير مهرجان القرين طالب الرفاعي البيان الختامي وضمنه توصيات، هي: أولاً: إصدار سلسلة شعرية شهرية للشباب لمن هم دون سن الثلاثين، ثانياً: إصدار مجلة فصلية متخصصة بقضايا الشعر العربي الحديث، وموقع الكتروني موازٍ لها، ثالثاً: استحداث كرسي للشعر العربي الحديث في الجامعات العربية، واستدعاء شعراء عرب للتدريس فيه، رابعاً: تنظيم مهرجانات شعرية مشتركة لشعراء عرب وأجانب، لمزيد من الاتصال بعوالم الشعر المتنوعة في العالم وتجاربه، خامساً: العمل على ترجمة الشعر العربي الى اللغات العالمية والشعر العالمي الى العربية، سادساً: العمل على تنظيم ندوات دورية منتظمة للشعر في دولة الكويت، سابعاً: رصد جائزة للشعر سنوية، تقدم لما يمكن أن يسمى بپ"ديوان العام العربي". جيل الثمانينات ولئن وصف أحد المشاركين في الحوارات الجو بأنه استعادة لأجواء السبعينات أيام كان السجال قائماً حول قصيدة النثر وشرعيتها وكذلك حول أسئلة الحداثة وهذا ما سماه الشاعر عباس بيضون ب"استئناف البدء"وكأن ما تحقق يجب إلغاؤه للبدء من جديد، فإن الشاعر بيضون تناول في مداخلته مراحل عدة من الشعر الجديد وقصيدة النثر وركز على مرحلة الثمانينات وما بعدها. واستهل بيضون كلامه عن هذه المرحلة متسائلاً:"من أين بزغت الثمانينات؟ أحسب انها بزغت تقريباً من قصيدة السبعينات، ولا أعرف إذا انفصلت بما يكفي عنها، السبعينات سن نضج قصيدة النثر والثمانينات وما بعدها سن غلبتها، غدت قصيدة النثر بتسارع كبير مهيمنة في كل مكان تقريباً، ومع قصيدة النثر بدا ان الحيز الشعري يفقد حدوده ويتداخل مع النثر. حصل هذا بتوسع جعل الشعر غير مستقل بعد بقاموسه أو موضوعه وحتى إيقاعه، وبدا أحياناً مقترباً وحساسية وأحياناً تقنية. الأرجح ان مفهوم الشعر لحقه قدر من الإبهام، بدا ان تراث الحداثة كاف لقصيدة الثمانينات وما بعدها، لكن تنزّل الشعر من الشعر أو حتى من الأدب لم يعد قاعدة، انفتحت أبواب أخرى كالسينما بالتأكيد وليست السينما وحدها فهناك الغناء والرواية والمسرح والصحافة. اللغة في قصيدة الثمانينات، وبخاصة ما بعدها غير متعددة الطبقات، انها لغة السطح الواحد، إذا جاز التعبير. لا يناط الأمر الآن بتعدد المعاني واحتمالاتها فهذه القصيدة لا ترتاح للتوليد والتناسل اللغوي ولا تحتاج حتى لطبقات المعنى، ان حصر المعنى مهم لديها، وقد لا يكون واحدياً لكنه أيضاً ليس جنونياً ولا مفتوحاً على كل المعاني، ذلك يفترض ألا يكون للكلام عمق مبالغ فيه أو خفاء لا يدرك .... ليس في كتابة الثمانينات وما بعدها، هذا الازدواج بين العمق والإبهام، بل ليس هناك الايحاء بالعمق من طريق الابهام، إذ لا تمكن التضحية بكل شيء لإظهار الخصوصية. لنقل ان شاعر الثمانينات وما بعدها يرى ان الابهام والغموض تقليد قديم، ولا يرى بالطبع في الوضوح قصور خيال. الوضوح بالنسبة إليه أساس، والوضوح لا يعني انتهاء الفن ولا ضيق اللعبة وانحصارها، إذ يمكن التوليد تحت شمس الوضوح، ويمكن الاستمرار في جدل المعاني وجدل الصور من دون الدخول في مناطق مظلمة. شاعر الثمانينات لذلك لا يبدو تحت وطأة لا وعي هائج مظلم، الوضوح والوعي ليسا بالنسبة إليه غير شعريين، كما انه ليس مهووساً بالخصوصية والأسلوب هوس سابقيه، لا تتطلب الخصوصية منه كل هذا الانحراف الكتابي الذي يجعل الشعر في أحيان مستخلصاً بالكامل. الأرجح ان اللغة كما يريدها شاعر الثمانينات وما بعدها تتميز بشيء من العموم، ليست تماماً إبلاغية لكنها في الأساس تواصلية، بعض شعراء ما بعد الثمانينات يبالغون حين يقولون ان اللغة أداة فحسب". وإضافة الى الشعراء والنقاد الذين شاركوا في الندوة والأمسية الشعرية، استضاف المجلس عدداً من الشعراء والنقاد ضيوفاً ومنهم: عبدالله خليفة البحرين، الياس لحود لبنان، رلى حسن سورية، حيدر محمود الأردن، نسيم خوري لبنان، السيد بحراوي مصر، غالية قباني سورية، سيد محمود مصر وسواهم... هل الشعر في أزمة؟ ومن الشهادات المهمة شهادة الشاعر قاسم حداد وتطرّق فيها الى مفهوم"الأزمة"التي يعانيها الشعر العربي الراهن، وتساءل في مستهل شهادته:"أحب أن أسأل أولاً: لماذا ينبغي أن تكون ثمة أزمة في الشعر العربي؟". وأجاب:"لا أجدني منسجماً مع استعمال تعبير"أزمة"عندما يتصل القول بلحظة الشعر الراهنة. ربما لأنني لا أرى المشهد والتجربة بالصورة التي يقترحها علينا سؤال الندوة ومصادره. كلمة"الأزمة"ليست سوى مصطلح في ذهن السؤال أكثر مما هي معطى موضوعي في الواقع .... منذ أكثر من نصف قرن ونحن نتعرض لمفردات ومصطلحات يتم تداولها بآلية مفرطة، وبخفة لا تحتمل، وغالباً ما تفتقر الى دلالات واضحة المعالم أو مكتملة المعنى. ولعل أسطع مثل على ذلك تعبير"الحداثة"الشائع، والذي لم نتمكن حتى الآن من الاتفاق في شأن معناه ودلالته في سياق الثقافة العربية. وعندما تسارعت التفجرات التعبيرية، في شكل انزياح نوعي لمفهوم اللغة الشعرية، يبتكره الشاعر استجابة لمخيلة تتجاوز مألوف المصطلح النقدي السائد، عند ذلك أخذ البعض ومعظمهم ممن يرفض المعنى الجوهري للحداثة، بمعنى الاتصال بالمستقبل يكرس وصف اللحظة الراهنة باعتبارها أزمة. وفي هذا السلوك نزوع نحو التماهي مع التقليد بأقنعة نقدية مختلفة، تصب غالباً في رفض حرية التعبير والخروج عن التخوم المعروفة للقول الأدبي. فعندما نستخدم تعبير"أزمة"كوصف قدحي للتجارب الشعرية الموغلة في التنوع، نجد أنفسنا بحسن النية وسوئها في سياق المتحفظ أمام ما تذهب اليه المخيلة الشعرية، ونكون بالتالي ضحايا الاندفاعات السلفية التي تحجر الحريات في شتى تجلياتها، وفي مقدمة هذه الحريات حرية التعبير الأدبي. أقول هذا، لا لكي أطلق حكمَ قيمةٍ على التجارب الشعرية التي نشهد تنوعها وتفاوت درجات الابداع فيها، لكن لكي أذهب الى فتح الآفاق أمام هذا التنوع والاختلاف، من دون أن يخالجني أي قلق سلبي تجاه المشهد الشعري. لهذا فقط أحبُ أن أتوقف أمام تعبير"أزمة"الذي يجري تداوله في السنوات الأخيرة، لتصوير الواقع الشعري كما لو أن الآفاق مسدودة أمام كل الاجتهادات التعبيرية الجديدة، والتي، شخصياً، لا أجدها، إذا تميزت بالوعي والموهبة، تشير الى أفق مسدود في مشروعها الانساني، هذا المشروع الذي يمثل التعبير الشعري أحد أهم تجلياته وأجملها. ولكن عند محاولة التعرف على ما يشير الى"أزمة"ما في المشهد الشعري، لن يكون مفيداً التوقف عند الكلام عن ظواهر السطح العابرة، مثل استسهال الكتابة تحت طائلة الخروج من الوزن الى النثر، وغياب حكم القيمة النقدية، وخفّة ميزان النشر، وسيادة نقص المواهب، وإشكاليات العلاقة بالقارئ ...".