لقيتْ جهود المدرسة الإصلاحية في العالم العربي عناية خاصة وأُشبعت بحثاً ودراسة في المشرق والمغرب. لكن هذا لا يمنع من إعادة قراءة جوانب رئيسة من هذا التيار على ضوء ما انتهت إليه تجارب التحديث العربي اليوم ثم ما لحق ذلك في العقد الأخير من تطورات لافتة. ما يُطرح منذ بضع سنوات من توجهات واقع بين طرفين متناقضين، طرفٍ ساعٍ إلى"حماية الهوية"وتحصينها وآخر داعٍ إلى الانفتاح الداعم لاختيارات عولمة متوحشة تدّعي"إصلاح العالم العربي"، في مثل السياق القائم على تنافٍ متبادل ينبغي للباحث في شأن المؤسسات والأفكار والمناهج وتطوّرها أن يقوم بفحص ما قبل هذه المرحلة المعطَّلة وذلك بعمل تقويمي لطروحات الإصلاح قصد المساهمة في حداثة مبدعة. أول ما ينبغي لفت النظر إليه هو الاتفاق الضمني بين الاحتجاج السلفي الذي تنامى عقب إخفاق المشاريع التنموية العربية وبين الأيديولوجية التحديثية على إهمال أي قراءة نقدية لجهود المدرسة الإصلاحية. ما تحقق في العقود الخمسة الماضية تراوح بين الحدّين المتناقضين: إما التوظيف القسري لجهود تلك المدرسة أو الاقتصار على نوع من الاستعراض السردي المشوب بقدر من التمجيد. بين هذين الطرفين يبرز خط الإدانة الصامتة التي انخرط فيها دعاة الأصالة الساعون إلى بناء جديد قائم على مقولة الصفحة البيضاء التي لا تسعى لأي ارتباط بالمدرسة الإصلاحية. ليس غرضنا ? في ذكرى مرور قرن على وفاة محمد عبده - الدعوة لاستعادة مقولات الإصلاحيين بعامة أو عبده بخاصة فذلك متعذر موضوعياً. غايتنا هي إعادة النظر في ما تبنّاه الإصلاحيون قديماً من أفكار ضمن ما اعتبروه قضايا أساسية على ضوء ما انتهت إليه التحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية المطروحة اليوم. ما نسعى إليه هو المساهمة في التعامل مع تاريخنا الفكري والثقافي بالتنسيب والتحقيب بما يقطع مع ما يسمى في الفكر التاريخي العربي الحديث بحالة"الجغرافية الزمنية". تلك الحالة التي تُحشَد فيها جملة من الآراء والمواقف المتباينة والمختلفة على أنها متزامنة من دون القيام بالجهد التقويمي القادر على تجاوز المغالطات الفكرية. على عكس ذلك الموقف التمجيدي فإن اختيار التحقيب ينهي حالة الاستخفاف بالجهود الإصلاحية التي لا تعبأ برسم حركة الأفكار في البلاد العربية ولا تعتمد رؤية تاريخية نقدية تتمكّن من ضبط الإضافات الجزئية أو النوعية لكل مرحلة وتحديد طبيعة العوائق التي حالت بينها وبين بلوغ ما كانت تهدف إليه. ضمن هذا التوجه نتناول مسألة مركّبة تتعلّق من جهة بالمؤسسة التعليمية ومن جهة أخرى بعلاقة المفسِّر بالنص القرآني فننظر كيف تناول عبده هذه القضية المثنّاة ثم إلى أين انتهت مع التوجهات المعاصرة؟ انطلاقاً من محاضرة الأستاذ الإمام في تونس عند زيارته الثانية لها سنة 1903 التي تناول فيها جملة من الآيات القرآنية المتعلقة بالعلم نحدد في مرحلة أولى أهم آرائه في المسألة التعليمية ومنها ننتقل إلى ما حكم منهجه التفسيري. في مرحلة ثانية ننزّل هذا الجهد المنهجي ضمن المسعى التجديدي الحالي الذي يتجه بعد مرور قرن إلى نوع خاص من علاقة المفسِّر بالنص القرآني المؤسس. من هذه المقاربة النقدية يمكن الوقوف على خصوصية تجربة محمد عبده التأويلية ضمن سيرورة التساؤلات الحديثة وما بلغه الفكر التجديدي اليوم في هذا المجال. المعاصرة والمؤسسة التعليمية كتب محمد عبده إلى السيد جمال الدين إثر زيارته لتونس في كانون الأول ديسمبر سنة 1884 ما يأتي:"لقد تعرفتُ هنا إلى علماء ومسؤولين كثيرين ووضّحت لهم أن العروة الوثقى ليست اسم جريدة ولكنها جمعية أسّسها الأفغاني في"حيدر أباد"وأن لهذه الجمعية فروعاً في عدد من البلدان الإسلامية لكن كل جماعة تجهل كل شيء عن الجماعة الأخرى وأنه لا يعرف حقيقة الأمور جميعاً إلا القياديون وأعلمتهم كذلك أني جئت إلى تونس بأمل تأسيس فرع لهذه الجمعية". يواصل عبده"استُقبلتْ هذه الدعوة بحرارة كبيرة وخَصّصتُ كامل وقتي من أجل وضع أسسها وقد رأينا أن نُطلق على خليّة تونس اسمك الأفغاني وإني على يقين من أنها سوف تتطور، ذلك أن التونسيين لهم رغبة واضحة في هذا العمل السرّي وفي حمايته والدفاع عنه". في أيلول سبتمبر 1903 قام عبده بزيارة ثانية لتونس في ظروف تختلف كل الاختلاف عن الزيارة السابقة، إذ تغيرت وجهة النخب التونسية المقبلة على الإصلاح كما أن الزائر الكبير أصبح يعتمد طريق العلم والتربية للتغيير بينما ظل أستاذه السيد جمال الدين متمسّكاً برأيه القاضي بأن الأنجع هو إصلاح الحاكم. محمد عبده تحوّل من جهته من متمرّد منفيّ يؤسس لعمل سرّي إلى مفتٍ للديار المصرية يمتلك رؤية مغايرة للإصلاح بعيدة عما كان يجمعه بأستاذه الثائر. كما غيّرت السنون العشرون بمصاعبها وخيباتها رؤى النخب التونسية التي اجتمعت لاستقبال عبده والإنصات إليه. لقد كانت النخب الوطنية على اختلاف انتماءاتها: شيوخ زيتونة ورواد الخلدونية وأعضاء حركة الشباب التونسي تتابع بكثير من الاهتمام ما ينشره الأستاذ الإمام على صفحات مجلة المنار منذ تأسيسها سنة 1898. ما يعنينا من هذه الزيارة هو الدرس العام الذي ألقاه الأستاذ الإمام على مجموعة من علماء تونس وأعيانها وطلبتها في رحاب معهد الخلدونية، تلك المؤسسة العلمية التي أنشأها الإصلاحيون حديثاً رديفاً للمؤسسة الزيتونية العريقة تكمّل ما نقص من معارفها وتفتح للناشئين من الطلبة آفاقاً في البحث تجعلهم أقدر على مواجهة العصر. عشية يوم الأحد 20 أيلول 1903 اجتمع ما يقارب من خمسمئة شخص لمتابعة ما أراده محمد عبده لقاءَ حوار ومسامرة ذلك"أن الفقير رجل سائح قصدتُ هذه الديار للتعرف إلى بعض المسلمين والنظر في أحوالهم وأمور دينهم ... والتكلم فيما يختلج بفكري في أمر التعليم". بهذه العبارات التي تبدو أقرب إلى مقتضيات المجاملة افتتح محمد عبده درسه العام موضحاً أنه لا يقصد تحقيق مسألة علمية، إذ لا داعي إليه فپ"ما عندكم من جلة العلماء من نعترف بفضلهم فمن أراد تحقيق مسألة علمية فليراجعهم". ما ميّز هذا الدرس العام الذي حرصت على تسجيله صحيفة"الحاضرة"التونسية ثم نقلته عنها مجلة المنار هو تناول ثلاث مسائل: - في معنى العلم / - كيف ينبغي أن نتعلم؟ / - هل لدينا إيمان صحيح؟ تمهيداً لتناول هذه القضايا حرص محمد عبده على تحديد منهجه الذي اعتمده في معالجته النقدية:"إن الله يخاطب في كتابه الفكر والعقل والعلم من دون قيد ولا حدّ أما نحن فعملنا منافٍ لما كتبه أسلافنا وما تركوه من جواهر المعقولات في الكتب النفيسة المستودعة بخزائننا التي أصبحت ليومنا أكلة للسوس وفراشاً للأتربة...". هذا التمشي النقدي القائم على المقارنة مع ما كان متداولاً في عصور الازدهار لا يتحقق عنده إلا بحريّة التفكير، الشرطِ الرئيس الذي تناوله عبده في أكثر من مناسبة وبأكثر من طريقة. ذكر ذلك في التقديم وفي الخاتمة وفي بحثه لغاية التعلم وعند مباشرة ما يشوب بعض المسائل العلمية من اشتباه وغموض. لعل أفضل الأمثلة المعبّرة عن هذه العناية الموصولة بحريّة الرأي قوله في سياق التسوية بين المرجعيات المعتمَدة عند تحديد مصطلح العلم ذاته:"ليس الغرضُ الخوضَ فيما اصطلح عليه علماء السلف الصالح أو غيرهم من المتكلمين أو الفلاسفة أو حتى من الزنادقة...". مثل هذا النزوع إلى التسامح الفكري نجده في ثنايا تلميحات ساخرة من قبيل تعريضه بدعاة الفكر التقليدي الرافض لأية مراجعة:"ومن الناس من إذا سألته في أمر يتعلّق بعقيدة من العقائد فاجأك بقوله لا تقل كذا فتكفرَ وتعتزل". إمعاناً في إحراج موقف الرافضين حرية الفكر لا يتردد عبده في تأكيد أن السلف الصالح كان ينطلق من تلك القيمة نفسها التي يتعذّر تحقّق أي تقدّم من دونها، يقول: فالقديم الحقيقي هو ما ندعو إليه ولا نجاح لنا إلاّ بالتعويل عليه... إنها طريقة أسلافنا الأقدمين فالعود إليها إحياء لسننهم وعمل بآثارهم". لا شك في أن عبده كان يدرك أن قسماً من الحاضرين المتابعين لا يشاركه الرأي في مسائل عدة خصوصاً ما يتعلّق باستقلال الفكر عند معالجة المحاور الثلاثة التي دارت حولها محاضرته: العلم والتعلّم والإيمان. مع ذلك فإنه لم يتردد في طرح مسائل كانت تبدو للبعض مسَلّمَات، طرحَها فحصاً ونقضاً. - بدأ بالعلم فذكّر بالمفهوم السائد عنه في المؤسسات التقليدية الإسلامية معتبراً أنه مفهوم مخطئ، يمكن أن يسمى"جهلاً"أو"ضلالاً يضيع الوقت من دون فائدة". ليس العلم"قواعد تحفظ وتقارير تكتب وحواشي تطول تضيّع الفائدة وتصرف الذهن". العلم"نور يعطي للإنسان التبصّر في أي أمر من الأمور ويهديه للخير في الاعتقاد والعمل... إنه الاستعداد للفهم". لتأكيد هذا يذكر عبده ما خبره بنفسه من دراسته في الأزهر:"وقد وقع لي أن مكثت سنة ونصف لا أفهم شيئاً من شرح الكفراوي على الأجرومية فحملني عدم الفهم على مهاجرة طلب العلم لتمكّن اليأس من نفسي". - في خصوص التعليم ووسائله يعلن الشيخ أننا لا نعرف كيف نعلّم لأنه على الأستاذ أن"يكون بيده ميزان يزن به ذهن الطالب ودرجة استعداده لقبول ما يقول بأن يتنازل مع المبتدئ حتى يرتقي به شيئاً فشيئاً ليصل إلى الدرجة التي يتمكّن بها من إدراك دقيق للمعاني". هكذا يصبح التعليم علماً، إنه"فن معرفة درجات الأذهان وكيفية الاستفادة منها". ثم يضيف في نوع من السخرية المُرّة مبيناً خطورة هذا العلم المجهول:"ومَن أنفقَ أوقاته فيه فإني أضمن له ثوابه تعالى أضعاف ثواب من يختم إقراء المطوّل". يفصّل المحاضر بعد ذلك القول شارحاً فساد وسائل التعليم في اختصاصات ثلاثة هي النحو والبلاغة والتوحيد. ثم يعلن أمام مستمعيه بالخلدونية أن غاية التعليم في البلاد الإسلامية لا تنفصل عن مبدأ الحرية واستقلال الفكر أي أنه"لا بد من أن نفتح للطالب باب النظر بنفسه في العلوم". ذلك هو الجانب الأول من مضمون محاضرة عبده في تونس طرح من خلاله سؤالاً عن المؤسسة التعليمية الإسلامية في بداية القرن العشرين. اليوم وبعد تجارب مختلفة لا يزال سؤال تلك المؤسسة شاخصاً أمامنا بكل حدّة بعد أن انضافت إليه تعقيدات ما يسميه بعضهم بالنرجسية الدينية. تلك النرجسية التي حالت دون إنهاء الانفصام القائم بين الطالب في تلك المؤسسة وبين عصره نتيجة معضلة الاكتفاء بالذات في المجال المعرفي والاستغناء عن كل تجديد منهجي. لكننا حين نعود اليوم إلى محمد عبده في اهتمامه بإصلاح المؤسسة التعليمية التقليدية فلا يمكن تجاهل ما آلت إليه التجارب العربية الهادفة لبناء مؤسسات جامعية طوال القرن المنصرم وما تثيره تلك المؤسسات الحديثة من تساؤل محيّر. كيف نفسّر هشاشة النخب الجامعية الحديثة ولماذا يتعذر عليها وهي ذات المستوى العالي في التكوين العصري أن تقف بنجاح أمام التحدي الكبير الذي يواجه مجتمعاتها اليوم: أي بناء مشروع فكري عام قادر على تحريك المجتمع؟ أليست مهمة المؤسسات الكبرى - والجامعات واحدة من أهمها- هي تجسيد يقظة العقل الاجتماعي المتحفز من طريق فكر نقدي تطويري؟ حديثنا اليوم عن عبده يطرح سؤالاً مزدوِجاً: جانبُه البارز يتصل بالتعليم الأصلي أو الديني لكن الخفي منه يتعلق بمعضلة التعليم العصري الجامعي وضرورة تفسير ما يبدو وكأنه إخفاق لمشروع المؤسسة التعليمية كما نمت وتطورت في المجتمعات العربية الحديثة. سؤال المعاصرة كما نفهمه عند قراءة مسعى عبده الإصلاحي يرتبط بمعضلة المؤسسة الجامعية عندنا، إنه بحث في منهج التفكير وفلسفة المعرفة التي تعتمدها تلك المؤسسة لكنه من جانب آخر تساؤل عما وقع إنجازه في الاتجاه نفسه ضمن بنية المجتمع بمؤسساته المختلفة وفي النسيج الثقافي السائد الذي يصوغ تصورات النخب والجمهور. المفسر ومرجعية النص المقدس قدم الأستاذ الإمام إلى تونس في زيارته الثانية بعد أن أقام أياماً في الجزائر اجتمع فيها بأعيانها وعلمائها وألقى فيهم محاضرة فسّر فيها سورة العصر تفسيراً جاء أطول من تفسيره للسورة ذاتها ضمن معالجته لكامل جزء"عم يتساءلون". أما في محاضرته بالخلدونية فإن عبده لم يقدم - وهو صاحب تفسير المنار - أي تفسير بالمعنى المتداول باستثناء استشهاد بست آيات، أربعٌ تُعلي من شأن العلم والعلماء واثنتان تتصلان بموضوع التوكّل والسعي. يتضح في هذا الجانب الثاني من محاضرة الخلدونية أن عبده أعاد بصورة مختصرة ما كان قد تناوله مطولاً في محاضرته الجزائرية أي أنه أراد أن يؤكد أن الإيمان الصحيح قرين السعي والعمل وأن الاحتجاج بالقدر للبقاء في البطالة والكسل خطأ في فهم التوكل وتعطيل لشرع الله. ما يعنينا في مقارنة مضمون المحاضرتين الخلدونية والجزائرية هو الحرص على مواجهة حالة الرضا والتسليم التي جعلت الكثيرين يعتقدون أن سوء حالتهم من قدر الله الذي لا مردّ له. تلتقي المحاضرتان في اعتبار الفساد والشر غير موصولين بالزمان وبالمعنى الصحيح للتوكل إنما منشؤُهما في نفوس الناس بما يحملونه من معتقدات مخطئة. لكن اللافت للنظر هو أن عبده راعى حال المخاطَبين في كل من تونسوالجزائر، فقد كيّف شرحه لسورة العصر وتناوله لمسؤولية الإنسان بما يناسب الوضع الاجتماعي والثقافي الخاص بالجزائر فاهتم أكثر بتعلّم اللغة العربية وإتقانها وبطبيعة العلاقة بالآخر المختلف دينياً. هذا في حين تناول المقولة نفسها في السياق التونسي ضمن إطار المؤسسة التعليمية بما يحقّق لها تحصيل الملكة والارتقاء فيها بالعلوم الأساسية التي على رأسها التمكّنُ من اللغة العربية"الوسيلة المفردة لإصلاح عقائدنا". السؤال الذي يطرح نفسه عند تناول المحاضرتين يتعلق بمنهج محمد عبده في تفسيره للنص القرآني ذلك أنه يتعذّر السعي إلى مدلولات القرآن من دون اعتماد على نظام فكري ونسق ثقافي يمثلان قاعدة العلاقة بين المفسر بالنص. ما يبرز في مستوى أول أن عبده لم يكن - في محاضرتيه وبخاصة في محاضرة الخلدونية - منشغلاً بالتفسير قدر انشغاله بالواقع المتردي في القطرين المسلمين. لكنه كان في واقعيته تلك يختار من النص القرآني ما يلائم غايته ويدعم دعواه الإصلاحية. من جهة ثانية إذا استعرضنا الأسلوب المعتمد تأطير السورة ? مكية مدنية ? اللغة والاصطلاح - تفسير القرآن بالقرآن والمراجع التي يحيل عليها الشافعي- البيضاوي ذهب بنا الظن أن عبده يفهم النص بحسب المعاني التي ضُبطت زمنَ نزوله وما تلا ذلك بقرنين وأكثر. إذا وسّعنا دائرة السؤال الباحث في علاقة عبده المفسر بالنص وعدنا إلى نصوصه الأخرى اتضحت لنا الصورة في ما يمكن أن نعتبره نوعاً من المنزلة بين المنزلتين: - هو لا يتجاهل الثقافة المرجعية الحافّة بالنص المقدس المعروفة بالعلوم النقلية لكنه يضيف إليها بعض المؤلفات الأوروبية الحديثة. ? يجاهر بمناهضته للشيوخ الرافضين ومحدودية أفقهم الفكري لكنه يعتبر أن نهضة المسلمين لا يمكن أن تقوم إلا على أساس"الداخل الثقافي". - أكثر من ذلك، نجد له رأياً لافتاً في خصوص تفسير القرآن سجّله تلميذه رشيد رضا عندما ألح عليه في القيام بدروس في التفسير بالأزهر. امتنع عبده عن القيام بهذه الدروس مبيناً أن"القرآن لا يحتاج إلى تفسير كامل فله تفاسير كثيرة أُتقن بعضُها ما لم ُيتقَن بعض آخر لكن الحاجة شديدة إلى تفسير بعض الآيات"ثم قَبِل إلقاءَ سلسلة من دروس التفسير. يضيف في مقدمة تفسير المنار قوله:"التفسير عند قومنا اليوم ومن قبلِ اليوم عبارة عن الاطلاع على ما قاله بعض العلماء في كتب التفسير على ما في كلامهم من اختلاف يتنزّه عن القرآن القائل: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً". تؤكد جملة هذه المواقف المتباينة أن صاحب المنار يقف على مشارف تحوّل مفصلي مما يجعل من العسير أن نصنفه ضمن المفسرين التراثيين للقرآن: إنه وإن لم يتنكر للعدّة المعرفية التي اعتمدها القدماء ولبعض أساليبهم في شرح النص فإن البناء الفكري الذي يقود تفسيراته يختلف عما ظلت المدرسة التراثية تعتمده باستمرار. لا شك في أن عبده كان متبرّماً بتلك المدرسة التي يكون المفسّر فيها متحرّكاً ضمن الموروث اللغويّ والفقهيّ والعقديّ وخاضعاً لمنهج يجعل اللغة والتراث"يفكّران"من خلاله وليس العكس. ما يؤكّد هذه العتبة التدشينية التي لم تبلغ مرحلة القطع مع المناهج الموروثة ما نجده في ثنايا المنار مما يمكن أن نعدّه تعليلاً لهذا القلق والتبرّم: يقول عبده:"التكلّم في تفسير القرآن ليس بالأمر السهل وربما كان من أصعب الأمور... وأهم وجوه الصعوبة أن القرآن كلام سماوي تنزل من حضرة الربوبية التي لا يُكتنَه كُنهُها على قلب أكمل الأنبياء". يضيف في فقرة أخرى:"إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس وما فهموه وإنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا". تتأكد هذه المسألة عندما ننظر في آثار السيد جمال الدين فنجد المقولة ذاتها:"القرآن وحده سبب الهداية والعمدة في الدعاية أمّا ما تراكم عليه وتجمّع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظريّاتهم فينبغي أن لا نعوّل عليه". كيف يمكن أن ننزّل هذه المواقف الناقدة ضمن سيرورة جهود القراءات التفسيرية الحديثة للقرآن؟ لقد صيغت دعوة التحرّر من عبء المدونة التفسيرية التي اعتبرها الإصلاحيون أخرجت الكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهي في تثبيت مقولة:"القرآن كتاب هداية". انطلاقاً من هذه المقولة أمكن لمحمّد عبده أن يفتح طريقاً جديدة للعلاقة بالنصّ القرآني. هذه العلاقة تحدّد للتفسير هدفاً مغايراً لما استقر عليه المفسرون التقليديون، إنه:"ذهاب المفسّر إلى فهم المراد من القول وحكمة التشريع في العقائد والأحكام على وجه يجذب الأرواح ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام". الغرض الجديد للتفسير في تيار المنار هو التوصّل إلى الاهتداء بالقرآن أي أن وظيفة النصّ القرآني تتحدد في إصلاح المجتمع. * أكاديمي تونسي