استمعت إلى شخصية قريبة من دوائر صنع القرارات الأعلى في دولة عربية وهي تتحدث عن عدم الارتياح السائد في بعض العواصم العربية بسبب الانهيارات"السياسية"المتعاقبة في الولاياتالمتحدة. لم تنطق بكلمة"شماتة"، ومع ذلك خرجت بانطباع أن كثيرين من كبار المسؤولين العرب فقدوا مع نهاية الأسبوع تفاؤلهم باستمرار تحسن العلاقات الممتازة القائمة حالياً بين واشنطن وعواصمهم. قيل صراحة إن مشكلات إدارة بوش تشكل عبئاً يضاف إلى أعباء داخلية ثقيلة معروفة للكافة. كان الأمل أن تهدأ الأمور في واشنطن بعد كارثة الإعصار"كاترينا"ويعود الرئيس إلى الاهتمام بالداخل الأميركي ويترك حكومات العرب في حالها. وبالفعل كانت البدايات مشجعة. ثم خاب الأمل. لم يحدث، في ما أذكر، أن إدارة أميركية أخرى ولّدت معارضة هكذا متنوعة وقوية في أول عام من الفترة الثانية للرئاسة، ولم يحدث أن كان لدى أي معارضة لعهد سابق هذه القائمة الطويلة من القضايا. وعلى رغم أن فضيحة الفترة الثانية صارت أمراً طبيعياً وعادياً، فإنه على امتداد الثلاثين عاماً الماضية كانت المعارضة تجتمع على فضيحة بعينها، مثل ووترغيت نيكسون، وكونترا - إيران ريغان، ومونيكا كلينتون، ولم يحدث في أي مرة أن انتهزت المعارضة فضيحة لتفتح بها ملفات الإدارة كافة، فتجعل العهد كله متهماً بسلسلة من الأخطاء والفضائح وحلقات الفشل. وهنا يكمن سبب خيبة الأمل في بعض العواصم العربية ولدى بعض قيادات المجتمع المدني والمعارضة السياسية في العالم العربي. فالولاياتالمتحدة استفادت من تكرار الجهر بأنها وراء الإصلاحات السياسية وغير السياسية التي أدخلتها دول عربية، إذ كسبت نفوذاً إضافياً لدى هذه الدول، وحققت نفاذا أعمق في أجهزتها ومؤسساتها ومثقفيها، واقتربت كثيراً من بعض تنظيمات المعارضة. ولاحظنا أيضاً أنه بينما كانت الحكومات والمعارضة منشغلة بالضغط أو بالدعم الأميركي كانت واشنطن تحقق في المنطقة إنجازات أعمق أثراً وأوسع مجالاً، بعضها في مجال حرية السوق وآلياتها، وأخرى في نطاق فرض إقامة علاقات شاملة مع إسرائيل تحمل في جوهرها معنى الاستسلام وتأكيد الانهزام، لأنها تتم في إطار ضعف عربي متناه تجاه إسرائيل وأميركا وفي إطار تصلب إسرائيلي وتوسع واستيطان غير محدودين واغتيالات واسعة. حدث هذا بعد أن استجابت حكومات عربية كثيرة لشرط أميركي قديم، يقضي بأن تهتم كل دولة بشأنها الداخلي ولا تتطلع إلى دور خارج حدودها إلا إذا طلب منها هذا الدور. وضع مسلسل أزمات واشنطن العرب أمام معضلة، إذ لم يعد ممكناً الدفاع عن أميركا"النموذج الديموقراطي والأخلاقي"، وفي الوقت نفسه سيكون معقداً وصعباً للغاية استمرار الإذعان لأميركا صاحبة السمعة بأنها الأقوى والأكفأ. أما أميركا النموذج، فبدت خلال الأسابيع الأخيرة مشوهة بفضل سوء شديد في الأداء، والأمثلة متعددة: أولها العجز المتفاقم للموازنة بأرقام تهون أمامها أرقام العجز في موازنات بعض الدول العربية، وهو العجز الذي تعاقبها عليه واشنطن والمؤسسات الاقتصادية الدولية التي تجري في فلكها. وبالفعل، سمعت قبل أيام وزير المال في إحدى الدول العربية يشيد بعجز موازنته بالمقارنة بنسبة العجز الأميركي. ثاني الأمثلة على سوء الأداء هو تداعيات الإعصار"كاترينا"سواء ما خص انكشاف فجوة التمييز الطبقي والعرقي في ظل فلسفة اليمين المحافظ الذي يسيطر على الحكم في واشنطن، أو ما خص القصور الشديد في تهجير السكان والحفاظ على الأمن ومنع الفوضى، وكان تبرير الحكومة انشغال الحرس الوطني بالحرب في العراق. ثالث الأمثلة ورابعها وخامسها تتعلق جميعاً بالفشل البالغ في السياسة الخارجية الأميركية، فالمؤكد مثلاً أن الولاياتالمتحدة لم تفلح بعد أكثر من عشرين عاماً على انفراط الاتحاد السوفياتي وسقوط الشيوعية في دمج روسياوالصين في الجبهة الأميركية. ولا تزال الدولتان تتعاملان مع العملاق الأميركي باستقلالية رغم الفجوات الكبرى في موازين القوة المادية والعسكرية. وتأكد أيضاً خلال زيارة محمود عباس أن الرئيس بوش لم يكن أميناً أو صادقاً حين أقنع المسؤولين العرب والفلسطينيين بأنه سيقيم دولة فلسطينية مستقلة قبل نهاية 2005. كانت سقطة مهينة له ولصدقية أميركا في العالم العربي وفي مجموعة الأربعة، حين اعترف بأن الدولة لن تقوم في عهده. ولا يهم إن كان المسؤولون العرب أدركوا هذه النية منذ البداية أو لم يدركوها، ففي الحالين ستدفع جهة ما أو أكثر ثمن النكوص الأميركي عن الهدف المعلن وسيكون غالياً. ينطبق هذا الأمر على كل ما يبدو وكأنه نجاحات أميركية، بينما هو في الواقع نجاحات لإسرائيل، تسبب معظمها في تعقيدات شديدة للولايات المتحدة وكلفة باهظة يتحملها المواطن الأميركي، إلا إذا اعتبرنا النجاحات التي تحققها السياسة الأميركية لإسرائيل نجاحات لأميركا وأن المصلحة القومية للدولتين واحدة. مؤكد كذلك أن أميركا فشلت، حتى الآن، في حل مشكلة الحد من الانتشار النووي. وأسباب الفشل كثيرة، بعضها يعود إلى الأخلاقيات المتناقضة للسياسة الأميركية في شأن التعامل مع الدول الحريصة على تطوير إمكاناتها النووية، وبعضها يعود إلى عجز السياسة الخارجية الأميركية عن ترويض الصينوروسيا والقضاء على معارضة دول أخرى. ونسمع عن تمرد بعد آخر لعاصمة بعد أخرى في أميركا اللاتينية. كاسترو بالتأكيد ليس معزولاً في القارة اللاتينية، بل ربما كان أقرب إلى الواقع القول إن المعزول في الأميركيتين هو الولاياتالمتحدة أكثر من كوباوفنزويلا والبرازيل وكلها متمردة على السياسة الأميركية، وبأي معيار لقياس اتجاهات مجتمع الدول، قد يثبت أن قمة الدول اللاتينية التي انعقدت أخيراً في إسبانيا، لم تكن على هوى الولاياتالمتحدة التي حضرتها مراقبة. لم يصدر المؤتمر قراراً واحداً يحمل معنى الإذعان للدولة الأعظم، ولم يبد استعداداً لمساندة أميركا في أزماتها الحالية مع فنزويلا أو مع بوليفيا وأزماتها المتوقعة قريباً مع نيكارجوا وبيرو وكولومبيا والإكوادور. إلا أنه إذا كان يوجد من الفشل في السياسة الأميركية ما يستحق التوقف عنده أطول من غيره، فهو ذلك الفشل الذي هدد السلام العالمي ثم انتقل يهدد السلام الاجتماعي داخل الولاياتالمتحدة، وأقصد قرار غزو العراق واحتلاله. بدأ الإعداد للقرار مغامرة محسوبة على امتداد أشهر أو سنوات، واشتركت فيها عقول ومواهب قيل وقتها إنها بين الأرقى في التاريخ الديبلوماسي الأميركي. ولم تنته المغامرة على رغم أنها أودت بحياة ألفي قتيل من العساكر الأميركيين، وآلاف من العساكر"غير الأميركيين بعد"، ومئات من عساكر مرتزقة أميركيين وغير أميركيين بخلاف من سقط من جنود دول لا علاقة لها بأصل الموضوع أو تطوراته، وعشرات الألوف من أبناء الشعب العراقي، وعشرات من إرهابيين عرب وغير عرب. وانقسم الشعب الأميركي مرة أخرى على قضية، لعب الكذب فيها الدور الأساس، فسقطت في نظره هيبة السياسة والحكم واهتزت أكثر من أي وقت دعائم العدالة بسبب مواقف نائب رئيس الجمهورية من قضايا التعذيب ومواقف الإدارة من قضايا الجريمة الدولية، واكتشف الأميركيون فجأة أنهم دفعوا من حرياتهم الشخصية وخصوصياتهم الكثير في مقابل مغامرة لن تكسبها أميركا. حدث في ظل الديموقراطية الأميركية، هذا النموذج البراق الضاغط على حكومات العرب ونخبها، أن استطاعت جماعة أو عصابة قليلة العدد اختطاف عملية صنع القرار السياسي في واشنطن وأشاعت فوضى ديبلوماسية وسياسية، حسب قول السيدة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأسبق ورأي السيد ويلكرسون مساعد كولن باول وزير الخارجية السابق. وعلى رغم ضغوط الديبلوماسية الأميركية على الدول العربية لتحسين منظومات الأخلاق والأديان فيها، يواجه القادة السياسيون الأميركيون اتهامات بممارسة الكذب في التعامل مع الكونغرس والشعب والقوات المسلحة الأميركية ومع جميع دول العالم بالتواطؤ مع بريطانيا. يواجهون أيضاً اتهامات صريحة بالفساد، فالشركة التي كان ينتمي إليها نائب رئيس الجمهورية هي التي حصلت على نصيب الأسد في مشاريع تعمير بالعراق ومشاريع تعمير في نيو أورليانز، ما دفع شركات أميركية أخرى إلى توجيه الاتهام بالفساد والرشوة إلى قمة النظام في أميركا. من جهة أخرى، رددت الدوائر الأصولية في العالم الإسلامي الاتهام الموجه إلى الرئيس بوش باعتماده على التيارات الأصولية في الكنيسة الأميركية في الوقت الذي يشن فيه حرباً ضد الأصوليات في العالم العربي والإسلامي تحت اسم"الحرب ضد الإرهاب". وتركز أدبيات هذه الدوائر الأصولية على ممارسات القيادات الأصولية الأميركية ومنها بات روبرتسون الذي دعا الحكومة الأميركية إلى اغتيال هوغو تشافيز رئيس فنزويلا، ولم يصدر عن واشنطن الرسمية سوى كلمات قليلة، ليس بينها ما يحمل إدانة الزعيم الأصولي. ولم يجر معه تحقيق ولم تتدخل السلطات القانونية، رغم أن القوانين الأميركية حديثة الإصدار تجرم الدعوات إلى الكراهية والعنف. هكذا تبدو صورة مبادئ أميركا وسياساتها وأخلاقها أمام الطبقة السياسية الحاكمة في العالم العربي، صورة تسبب حرجاًً لطبقة يعتمد قطاع فيها على دعم هذه الدولة الأعظم ويشيد بإنجازاتها وقوتها وكفاءتها أو يخشى إغضابها وينفذ طلباتها، وقطاع آخر جعلها النموذج لعقيدته وبشر بنهاية تاريخ مجتمعاتنا المتخلفة في اليوم الذي اختارت فيه هذه المجتمعات الطريق الذي اختطته لها الولاياتالمتحدة، وقطاع ثالث سلك طريق العناد ورفض الانصياع فانهال عليه أسوأ ما في ترسانة الديبلوماسية الأميركية من عقوبات وحصار وتشريد وتجويع وفتن، وما كاد يقترب هو الآخر من منطقة التنازل والتفاهم حتى انفجر مسلسل الأزمات في واشنطن وعاد التنازل أو التفاهم أشد صعوبة وأكثر تعقيداً، خصوصا أن الرأي العام صار متأكداً من أن السياسة الخارجية الأميركية لا تقصد الخير للشعوب العربية ولا تعمل وفق ما تعلن من مبادئ وتجددت الشكوك حول نيات أميركا في فلسطين ومصر والسعودية والسودان ولبنان. * كاتب مصري.