طوال عقود، استولت مذاهب سياسية عربية، ماركسية وقومية، على نقد السياسة الأميركية والاعتراض عليها والحث على مقاومتها. نعني أنها انفردت بمنحه لغتها وبإدراجه ضمن أجندات اشتراكية و/أو تحرر-وطنية، فلم نعد نصادفه خارجها. فهي وضعت يدها على المردود السياسي والمعنوي لنقد ومناهضة السياسة الأميركية، وجعلت منه أهم ركن من أركانها. جرى ذلك بدءاً من خمسينات القرن المنقضي واستمر بفاعلية متناقصة حتى ثمانيناته. وخلال ربع القرن الأخير تراجع دور القومية العربية والماركسية على الصعد التفسيرية والتعبوية والبرنامجية. فهل يعني ذلك أن كل نقد للسياسة الأميركية هو ولاء لمذاهب مهجورة، أو ربما تناسخ من تناسخات إسلامية اتجهت إلى صيغ مطلقة من العداء للغرب؟ هل النقد العلماني للسياسة الأميركية مستحيل؟ نريد مساءلة نوع من التفكير يضيق ذرعا بكل نقد موجه للسياسة الأميركية ولبُنى السيطرة الأميركية عالميا وشرق أوسطيا، ويجعل من نقد كهذا علامة أكيدة على الانغلاق أو التحجر الفكري. نريد ايضا المساهمة في إخراج نقد السياسة الأميركية من الطريق المسدود الذي أوصله إليها النقد المذهبي وأزمة الفكرين القومي والماركسي. يتلقى موقف النفور من نقد السياسة الأميركية مساندة حقيقية من ذلك الصنف من النقد الاجتراري، الصادر عن"ذهنية تحريم"صادق جلال العظم تستغني بالإدانة عن المعرفة، وبالعداء عن الفهم، وبالتعبئة عن التحليل، والذي يقيم رباطا جوهريا أو ميتافيزيقيا بين الولاياتالمتحدة والعداء للعرب والمسلمين. وسيسدي هذا النقد خدمة طيبة للتفكير السياسي العربي بزواله لا بدوامه. على أن ضيق نفس مثقفين وكتاب ضد-قوميين وضد-شيوعيين بنقد السياسة الأميركية لا يصدر عن ذهنية مختلفة. إن ربط نقد السياسة الأميركية بتداعيات من نوع التحجر والجمود الإيديولوجي والتعصب وما إلى ذلك، لا يفارق المنطق التحريمي، الهاجس بتجنب الدنس وبتطهّر مذهبي وبتماسك المعسكر، لا بنفاذ فكري ولا بنجاعة عملية. إنه نقد غير علماني هو الآخر، ولو انتحل العلمانية شعارا والليبرالية الجديدة راية. في النقد الرائج للنقد العربي للسياسة الأميركية عنصر جوهراني ولاعقلاني، لا يقل عما في النقد الرائج للسياسة الأميركية ذاتها. وقد يفضل نقد النقد ذاك اعتبار النظم المذهبية التي تجمد فيها نقد السياسة الأميركية في نزعة عداء للأميركيين مسؤولة عن اختراع النقد هذا، ما يرتب عليه أن أزمة تلك النظم أو تداعيها تعني بالضرورة تداعي الشكل الوحيد لنقد السياسة الأميركية، أي النزعة المعادية للأميركان أو الأنتي أميركانية. أما اختراع نظم الفكر تلك لنقد السياسة الأميركية فهو غير صحيح، مهما تكن مسؤولة عن تجميده في"أنتي أميركانية". فقد ارتفع الطلب على نقد السياسة الأميركية والاعتراض عليها بدءا من الخمسينات بالتوازي مع تنامي العداء المتبادل هذا من باب اعتماد صيغة حذرة للتعبير عن الأمر بين الولاياتالمتحدة والحركة القومية الاستقلالية العربية كما تمثلت في الناصرية المصرية. وقد عثر هذا الطلب على عرض نظري، تولته الماركسية اللينينية السوفياتية، منح نقد السياسة الأميركية أرضية نظرية متسقة نظرية الامبريالية وارتباطها بتطور الرأسمالية، لكنه اندرج في الوقت نفسه في حاجات دول وأحزاب ومنظمات ومعسكر دولي لتشريع نفسها وتعبئة الأنصار حولها. الاندراج هذا أضفى على نقد السياسة الأميركية درجة من الثبات والإطلاق والأخلاقوية، وجنح به نحو نزعة عداء جوهرانية لأميركا. هذا الجنوح بالتوازي مع الانزياح التدريجي للأرضية النظرية لنقد السياسة الأميركية، بدءا من ثمانينات القرن العشرين، من نظرية الامبريالية إلى نظرية الثقافة، يفسّر سهولة استيلاء الإسلاميين عليه اليوم، وخروج القوميين والماركسيين من منافسة ثقافية وسياسية أضعفوا هم أنفسهم مواقعهم العقلانية فيها. هذه الضعف حصيلة تعارض التكوينات السلطوية والحزبية، الامتيازية واللاعقلانية، مع الروح النقدية الحداثية للفكر الماركسي. أما الفكر القومي العربي فقد كان فيه أصلا عنصر رومانسي قوي الأمة كيان عضوي،"الكل في واحد"، عقيدة الفرادة والرسالة الخالدة.. سهل له الانزلاق نحو الاستبداد في الداخل نظرية الوحدة الوطنية الرومانسية والعضوانية والارتياب المرضي حيال الخارج المتربص والمتآمر. وتغذي شخصنة الأمة وتجانسها تصورا شخصنيا وجوهرانيا وتجانسيا للقوى والعلاقات الدولية. تلح الحاجة اليوم إلى التمييز بين نقد السياسة الأميركية ونزعة العداء للأميركيين، بعد أن أوصلنا الدمج بينهما إلى طريق مسدود فكريا وسياسيا. وبينما ليس ثمة ما يحول دون أن يكون النقد عقلانيا وعلمانيا، فإن نزعة العداء لا عقلانية ولا علمانية تعريفا، سواء كانت موجهة ضد العرب أو المسلمين أو اليهود أو الشيوعيين أو الأميركيين. على أن الحاجة ليست اقل إلى التمييز بين رفض نزعة العداء للأميركيين وبين التحمس التبشيري والأبله للسياسة الأميركية والدور الأميركي في العالم. إن كلا من الأنتي أميركانية والأميركانية المتحمسة مذهب مغلق لا يصلح أساسا لسياسة عقلانية حيال الولاياتالمتحدة ولا لمعرفة متطورة بسياساتها وأحوالها. وكما لا ينبغي أن تحول دواعٍ تعبوية موهومة دون التمييز بين نزعة العداء والنقد العقلاني، فإنه لا يصح أن تحول تطلعات انفتاحية مشروعة دون رؤية الفرق بين نزع المذهبة عن الموقف من السياسة الأميركية وبين الالتحاق الأعمى بها. نعود إلى القول إن أزمة الماركسية والفكرة القومية العربية يمكن أن تطل، وينبغي أن تطل، على تحرر نقد السياسة الأميركية من تلك النظم وإعادة بنائه على أسس جديدة، علمانية وعقلانية، وعلى فصل النقد هذا عن الأنتي أميركانية. الولاياتالمتحدة قوة دنيوية وكبرى، وسياساتها مؤثرة على مصائر العالم أجمع. لذلك لا يتقدم شيء على ضرورة نقدها بوصفها السلطة العليا عالميا. والنقد هو، أولا وأساسا ودائما، نقد السلطة.