قرأت باهتمام مقال فخري صالح المنشور في جريدتكم الغراء 18/8/2005 تحت عنوان"جهل أم تجاهل حيال أدب قارة؟... ندوة طرشان حول الثقافة العربية الأفريقية"، والذي تناول فيه الكاتب غياب الثقافة الأفريقية عن الحياة الثقافية العربية في الوقت الراهن. وذهب إلى أنه لا توجد كتب مترجمة إلى اللغة العربية منذ فترة طويلة، في حين شهدت خمسينات القرن الماضي وستيناته وسبعيناته ترجمات نشطة، وكان لأفريقيا حضور ساطع في الوطن العربي خلال حقبة التحرر الوطني، ما أدى إلى تصاعد الاهتمام في الشأن الثقافي الأفريقي من خلال إنشاء مراكز للدراسات الأفريقية في مصر والجزائر وليبيا والمغرب وتونس، كما تُرجمت الأعمال الأدبية الأفريقية البارزة إلى اللغة العربية، وصدر عدد من الدراسات عن الآداب الأفريقية وتطورها. ويذكر الكاتب الباحث أن هذه الحركة الثقافية النشطة شهدت انحساراً وابتعاداً للقارة السوداء من العرب، بعد رحيل الزعماء التاريخيين، فانعكس ذلك سلباً على أدب القارة الأفريقية، ما كشفت عنه بعد عشرين عاماً ندوة"العلاقات الثقافية العربية الأفريقية: رؤية مستقبلية"التي عقدت في مدينة سرت الليبية بالتعاون بين رابطة الكتاب والأدباء في ليبيا والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وحضرها كتاب ونقاد وباحثون من ليبيا والوطن العربي وأفريقيا. وبدا أن العرب لا يعرفون الأفارقة وان الأفارقة لا يعرفون العرب، وأن هناك جهلاً شبه مطبق وغياباً لسبل التواصل وآفاق التعرف إلى آداب الطرفين، ما جعل الندوة نوعاً من حوار الطرشان في غياب ترجمة أوراق العمل، واكتفاء منظمي الندوة بترجمة مختزلة إلى العربية والإنكليزية. ويختتم الكاتب مقالته مشيراً إلى أن قمة المأساة أننا نحن الذين دعونا الأفارقة الى هذه الندوة واقترحنا عنوانها، لكننا اكتفينا بالتحاور مع أنفسنا والتباهي بدخول الإسلام إلى أفريقيا، وان الماضي كان هو المهيمن، فيما الحاضر غائب تحت ستار كثيف من الجهل وعدم البحث والاكتفاء بالعتيق من . ويلقي الكاتب باللوم على الجانب العربي لعدم تحقيقه التواصل مع أفريقيا. وإنني إذ أتفق مع الكثير مما تناوله الكاتب في مقالته، أذكر في هذا السياق أن العصور الأولى من فجر التاريخ شهدت شعوباً وبطوناً عربية تنطلق من قلب شبه الجزيرة العربية في اتجاهات مختلفة من أفريقيا التي شهدت سواحلها ومناطقها المختلفة علاقات قوية ومتميزة مع العالم العربي.وكما انتشرت المؤثرات العربية في شرق أفريقيا، كان شريان النيل مسلكاً آخر أوصل مؤثرات العربية إلى شرق أفريقيا وأفريقيا الاستوائية، ولم تكن الصحراء إقليم فصل، بل كانت معبراً أساسياً يربط أفريقيا المتوسطية بأفريقيا المدارية. ومرت الشعوب الأفريقية والعربية بمرحلة دقيقة من تاريخها انتزعت خلالها حريتها السياسية وبقى عليها أن تكوّن شخصيتها الثقافية والحضارية وتؤصل جذور هذه الشخصية.، والتفت إلى هذه الحقيقة المؤتمر الوزاري العربي الأفريقي الذي كان بين أهدافه إحياء التراث الثقافي الأفريقي واستعادته وصيانته، وتأكيد كرامة الإنسان الأفريقي، وتشجيع التعاون الثقافي بين الدول الأفريقية، مع التطلع إلى تقوية الروابط الأفريقية وتنشيط المعرفة العلمية والتكنولوجية على النطاق الشعبي في كل قطر أفريقي، وتنمية كل قيم الدينامية في التراث الثقافي الأفريقي. وتم تأكيد هذا الاتجاه في اجتماع مؤتمر القمة العربية الأفريقية الأول الذي عقد في القاهرة في آذار مارس 1977 وما أشار إليه إعلان القاهرة من ضرورة التعاون في المجالات الثقافية والعلمية والتربوية، وتعزيز التفاهم بين شعوب القارة الأفريقية والعالم العربي من أجل مستقبل أفضل. وكان مأمولاً أن تحقق مسيرة التعاون العربي الأفريقي الأهداف التي عقد من أجلها مؤتمر القمة العربية الأفريقي الأول، إلا أن انقطاعاً حصل بالفعل لفشل المؤسسات القائمة في أن تنتج أعمالاً أو تقيم مؤسسات جديدة، مما أدى إلى غياب الكثير من المجالات، ومن بينها الثقافة الأفريقية، عن الحياة الثقافية العربية والعكس. وأدرك الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى فور مباشرته مهمات منصبه في أيار مايو عام 2001 أهمية تحقيق التواصل بين العالم العربي وأفريقيا باعتبار أن الأخيرة تمثل العمق الاستراتيجي للعالم العربي. وفي هذا السياق، كانت دعوته الى عقد اجتماع مشترك لوزراء الثقافة العرب والأفارقة بغية العمل على وضع سياسات وبرامج عمل مشتركة تساعد على تجاوز سلبيات الماضي وتفتح الآفاق لتعاون جديد يسمح بإنشاء مؤسسات مشتركة تعمل وفق مبادئ العمل والفكر الحر، وأن تكون قادرة على المنافسة، وتشكل بالتالي مصدر إشعاع وليس استقطاباً. كما نادى بضرورة قيام مؤسسات تعليمية عليا مشتركة لدعم أو تطوير برامج التدريس ومناهجه في المؤسسات القائمة لتزويد الدراس مهارات علمية وتقنية، إضافة إلى الدراسات التقليدية. ونجحت جامعة الدول العربية بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي في إنشاء المعهد الثقافي العربي الأفريقي في العاصمة المالية بامكو في نيسان أبريل من عام 2002 ليصبح حلقة الوصل الفاعلة بين الثقافتين العربية والأفريقية، وليكون الوسيلة لتحقيق التقارب والحضور الثقافي الساطع بين أفريقيا والعالم العرب. وتحقيقاً لهذا الهدف، تشكل المجلس العلمي للمعهد من مجموعة متميزة من العاملين في حقل التعاون العربي الأفريقي. وعقد المجلس منذ إنشائه اجتماعات عدة اقترح فيها عقد ندوة عن الصور المتبادلة بين العرب والأفارقة في المناهج الدراسية، وترجمة ابرز الأعمال الأدبية على الساحتين الأفريقية والعربية، وإقامة أسابيع ثقافية أفريقية عربية، وتبادل الزيارات بين الجانبين، والمشاركة في فاعليات المعرض التجاري الأفريقي العربي في الخرطوم للعام 2005، وترجمة المخطوطات الأفريقية المكتوبة بالحروف العربية، وبلورة استراتيجية متعددة المدى حول حماية التراث الأفريقي العربي المشترك باعتباره جزءاً من التراث الثقافي الإنساني، وإقامة مسابقة لأفضل بحث عن العلاقات الثقافية العربية الأفريقية. وضع الأمين العام لجامعة الدول العربية نصب عينيه أهمية الارتقاء بالعمل الثقافي الأفريقي العربي باعتباره يمثل الأساس لتقوية العلاقات والروابط الأفريقية العربية، واقترح في هذا الشأن الكثير من الأفكار والتوصيات التي نعتقد انه إذا نجحت الإرادة السياسية على الجانبين العربي والأفريقي في تبنيها والعمل على تنفيذها، يكون التعاون العربي الأفريقي خطا خطوات راسخة لفائدة الشعوب العربية والأفريقية، فيتاح للمثقفين العرب والأفارقة الفرصة لتحقيق التواصل والتعرف إلى بعضهم بعضاً باعتبارهم نتاج ثقافة إنسانية واحدة. الواقع ان ما نشره فخري صالح يثير بحق أزمة في العلاقات الثقافية العربية الأفريقية لا تماري فيه، لذا ندعو كتابنا في العالم العربي إلى مساعدة الجامعة العربية في مسيرتها نحو علاج هذا الخلل، كما ندعو حكومات الدول العربية إلى تفهم خطورة هذا الوضع وأبعاده الحضارية، وبالتالي دعم العمل الثقافي العربي بالأموال اللازمة، وهي ليست أموالاً طائلة، لكنها تمثل استثماراً أمثل لورقة ثقافية رابحة. مستشار الأمين العام لجامعة الدول العربية.