بعد تجربة مريرة في الحكم، وصف الرئيس اللبناني الراحل شارل حلو، مزاج اللبنانيين بأنه مزاج متقلب، ملتبس لا يثبت على حال. وقال انه تعلم بالاختبار كيف خذله اللبنانيون عندما كانوا يحصلون على الشيء الذي يطالبون به ... فاذا بهم يتحولون للمطالبة بعكسه! وهذا ما اكتشفه من بعده المحقق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي الألماني ديتليف ميليس. فهو شخصياً سمع هتافات الحشود المطالبة بمعرفة الحقيقة، أي الحشود التي ضمت أكثر من نصف مليون نسمة تلبية لدعوة"حزب الله"، زائد حشود المليون نسمة التي توزعت حول الطرقات المؤدية الى مسجد محمد الأمين، حيث مدفن المرحوم رفيق الحريري. اضافة الى نداءات متواصلة صدرت عن رئيس الجمهورية والوزراء والنواب والقيادات الروحية والزعماء ورؤساء الأحزاب الذين أيدوا دعوة المطالبة بكشف الحقيقة واكتشاف المدبر والمحرض والمتعاون والمنفذ. وعندما نشر التقرير جاءت ردود الفعل متحفظة وهادئة لأنه أشار الى متانة العلاقة بين المحرض والمنفذ، موحياً بأن عملية التخطيط تمت في دمشق، وبأن العناصر اللبنانية قامت بدور التنفيذ. وكان السفير اللبناني السابق جوني عبدو رئيس الاستخبارات ايضاً، قد وصف وقع التقرير"بالزلزال"فور الادلاء بشهادته واطلاعه على بعض التسجيلات الصوتية. وأعلن في حينه ان ميليس ذهب بعيداً في الحصول على القرائن والأدلة المجمعة لديه من مختلف المصادر. ولكن هذه القرائن المختارة من اعترافات أربعمئة شخص والمعتمدة حصيلة آلاف الوثائق الرسمية، لم تقنع اللبنانيين الذين توقعوا من ميليس ان يؤدي دور قاضي الجزاء ايضاً. ومثل هذا الدور مخالف لطبيعة المهمة التي أوكلت اليه بحسب قرار مجلس الأمن الرقم 1595، الذي يحصر عمله"بمساعدة السلطات اللبنانية على اجراء التحقيق لكونها تفتقر الى القدرة والالتزام بالتوصل الى نتيجة موثوقة ومرضية". ولما قبلت الدولة اللبنانية بالتنازل عن مهمتها القانونية، تولى القاضي ميليس تنفيذ المرحلة الأولى من الاشتباه، بانتظار تشكيل محكمة دولية في الخارج. ومعنى هذا ان التقرير الذي صدر هو حصيلة تحقيقات تغطي المرحلة الأولى من مرحلة جمع المعلومات، على أن تستتبعه"مرحلة الظن"وما توفره من أدلة مادية ملموسة يصعب دحضها. وفي نهاية الأمر تأتي مرحلة الحكم بواسطة محكمة دولية ربما تكون مشتركة اذا وافقت الدولة اللبنانية على ذلك. خيبة أمل لجنة التحقيق كانت مضاعفة لأنها اكتشفت غياب ثقافة القانون عند المجتمع اللبناني. والدليل ان الجميع - بمن فيهم المسؤولون وقادة الأحزاب - تعاملوا مع التقرير كأنه حكم نهائي منجز في حق الذين ذكرت اسماؤهم كشهود وكمتورطين، علماً أن المرحلة الثانية من التحقيقات قد تسقط صفة الاشتباه عن كثيرين بسبب عدم توفر المعلومات الراسخة والقرائن المادية الدامغة. ولقد عزا بعض المشرعين هذا الجهل المدقع الى تغييب العدالة الحقيقية مدة 29 سنة، أي المدة التي تنازل فيها اللبنانيون عن قيمهم المعنوية مقابل تثبيت مسألة الأمن التي أصبحت غاية كل مواطن عقب حرب داخلية مدمرة. وكان من الطبيعي ان توظف سورية مقررات الطائف للتسلل الى المواقع الحساسة في النظام وتعطل عمل العدلية في القضايا التي تعتبرها مقلقة لأمن البلدين. وهكذا استخدمت النص الملتبس المتعلق بسيادة الدولة لتحول دون عودة سلطة الدولة. ويقول النص:"ومن واقع العلاقات الاخوية التي تربط سورية بلبنان، تقوم القوات السورية مشكورة بمساعدة قوات الشرعية اللبنانية لبسط سلطة الدولة في فترة زمنية محددة أقصاها سنتان، تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني وإقرار الاصلاحات السياسية بصورة دستورية". ولما انتهت الفترة الانتقالية المحددة بسنتين رفضت دمشق سحب قواتها لأن لبنان - كما قال عبدالحليم خدام - لم يستكمل آخر شرط من شروط الاصلاحات الدستورية والمتمثلة بالغاء الطائفية السياسية. وبما ان عملية الالغاء هذه تتطلب تغييراً جذرياً في ميزان القوى ربما يؤدي الى حرب أهلية طاحنة، لذلك ارتضت الطبقة الحاكمة استمرار وجود القوات السورية. ولقد اكتشف معارضو اتفاق الطائف ان الشرط الأخير كان بمثابة"مسمار جحا"الذي استغلته دمشق لتثبيت نفوذها الواسع في لبنان. المحللون السياسيون يعتبرون التفويض الأميركي الذي أعطي للقوات السورية في لبنان بمثابة المشجب الذي علقت عليه دمشق كل تجاوزاتها. ففي المرحلة الأولى الممتدة من سنة 1976 حتى سنة 1990 كانت عملية وقف الحرب اللبنانية وضبط المقاومة الفلسطينية هما الحافز الذي شجع واشنطن على اعتماد الوصاية السورية من دون النظر الى الوسائل القاسية، عملاً بالنظرية الميكيافيلية القائلة:"الغاية تبرر الوسيلة". وفي المرحلة الثانية تحدث وزير الخارجية جيمس بيكر في مذكراته"سياسة الديبلوماسية"عن حاجة بلاده الى مشاركة سورية في التحالف الذي انشئ لطرد قوات صدام حسين من الكويت، وهكذا تعززت مرة أخرى سلطة سورية في لبنان لأنها استفادت من دورها في حرب الخليج لتفرض نفوذها على نطاق واسع. وفي ظل هذا الواقع الذي تنامى خلال مدة 29 سنة، كان الاكثار من عمليات اغتيال الزعامات اللبنانية يتم بتغاضي الولاياتالمتحدة إذا لم يكن بموافقتها. ويبدو أن المخططين لاغتيال الرئيس رفيق الحريري لم يدركوا مستوى التغيير الذي حصل في موقف واشنطن تجاه سورية. كما لم يدركوا ايضاً أن الظرف الاقليمي الذي فرض سياسة السكوت على التجاوزات، لم يعد قائماً. وهكذا تحولت عملية قتل الحريري جزءاً من الحملة العالمية ضد الإرهاب، تماماً مثلما تحول اغتيال المحامي البولندي في وارسو الى محفز لقيام انتفاضة شعبية وصلت حرائقها الى موسكو. قبل صدور تقرير ميليس بأسبوع تقريباً شنت وسائل الإعلام السورية حملة استباقية وقائية، هددت من خلالها باستخدام أوراق ضغط في حوزتها، بينها ورقة إيران وورقة فلسطين وورقة العراق. وكانت تتوقع من الأممالمتحدة أو من مجلس الأمن، تحييد دورها لأن الاتهامات - ولو كانت في مرحلة التحقيق - تعطي الانطباع بأن النظام يلغي من الوجود كل من يعارض ارادته. لذلك حرص الرئيس بشار الأسد على تكرار عبارة استنكار مقتل الحريري، وابلاغ الرأي العام الدولي بواسطة قناة"سي ان ان"شجبه لاغتيال هو في نظره خيانة عظمى. وكان بهذا الوصف يريد تنظيف الصور القاتمة التي علقت في الأذهان عن بلاده. كما يريد من جهة أخرى الظهور بمظهر طبيب حضاري ينأى بأفكاره السياسية عن كل ما جاء في التقرير عن الشلة المحيطة به، لذلك كرر للمراسلة كريستيان امانبور عبارة:"هذا ليس أسلوبي في التعامل مع الآخرين، خصوصاً أن الحريري كان صديقاً ومتعاوناً". يبدو أن المقابلة التي بُثت أكثر من سبع مرات، لم تقنع وسائل الإعلام الغربية بأنه من السهل على سورية عقد صفقة مشابهة لصفقة الرئيس الليبي حول عملية لوكربي. وكثرت الافتتاحيات والتعليقات التي حذرت من انهيار النظام السوري تحت وطأة التناقضات الداخلية. وخلصت الصحف البريطانية الى القول:"إن التقرير يرسم صورة لرئيس ضعيف. ذلك أن قادة الاستخبارات ينفذون مخططات لا يطلع عليها". واستخدمت صحيفة"ذي تايمز"نفيه لصفة الديكتاتور لتقول في افتتاحيتها"إن سورية بلد ديكتاتوري من دون ديكتاتور!". لمواجهة الحملات القاسية التي تزامنت مع صدور تقرير ميليس، رفعت سورية مستوى التصدي الى أعلى الدرجات. وشددت في دفاعاتها على طرح حجة التسييس، معتبرة أن القاضي الدولي ذكر خمسة من كبار المسؤولين السوريين لأسباب محض سياسية. وأدرجت بين هذه الاسباب موقفها من إسرائيل وصداقتها مع إيران، وانتصارها للمقاومة في لبنانوفلسطين وربما العراق. ولكن هذه الذرائع لم تخفف من وطأة الانتقاد في الأممالمتحدة، على اعتبار أن غمامة التسييس لا يمكن أن تحجب الجريمة وتداعياتها. حتى صحيفة"الأهرام"كتبت سلسلة افتتاحيات تقول فيها:"يجب التعامل مع هذه الأزمة بالجدية المناسبة. والمهم أن تستخدم الدول العربية المنطق والحجة المقنعة. أما اللجوء الى القول إن التقرير"مسيّس"أو أنه جزء من مؤامرة ضد سورية، أو أنه يعبر عن رغبة أميركية - فرنسية للاجهاز على سورية بسبب دورها القومي العربي في المنطقة، مثل هذا الكلام لن يفيد". في تعليقه على تقرير ميليس، استخدم سفير سورية لدى الأممالمتحدة فيصل المقداد، حجة كانت بمثابة الركيزة المنطقية التي استعملها كل سفراء دمشق في الخارج بمن فيهم السفير في لندن الدكتور سامي الخيمي. قال في معرض الاستغراب: ان قصور الأجهزة الأميركية عن حماية ثلاثة آلاف قتيل، وكذلك ما حدث في اسبانيا وبريطانيا، لم يضع هذه الأجهزة في موقع القوة المتواطئة. فلماذا تتهم الأجهزة السورية بالاهمال؟ وكان جواب الصحف على منطق يعوزه المنطق، أن الأجهزة المعنية في البلدان المتضررة نجحت في اكتشاف الفاعلين، في حين ان الاجهزة السورية المشرفة على الأمن اللبناني لم تهتم باكتشاف الفاعلين. والسبب كما يذكره تقرير ميليس، انها متورطة بالتخطيط للجريمة. على كل حال، قبل اعطاء سورية فرصة أخيرة لايجاد المخرج الذي يلغي التهم أو يخففها، طالب الرئيس جورج بوش بضرورة محاسبة دمشق بسبب تواطؤها لزعزعة استقرار لبنان ودعم الارهابيين فيه. ولكنه استبعد خيار الحرب مؤكداً انه لن يصبح هذا الخيار قائماً الا اذا استنفدت كل الوسائل الديبلوماسية. ويدعي السفير الاميركي السابق مارتن انديك في صحيفة"فايننشال تايمز"ان دمشق أرسلت الى واشنطن موفداً عرض حلاً على الطريقة الليبية مقابل تسليم عدد أقل من المتورطين. ويزعم انديك الذي زار دمشق ثلاث مرات كوسيط، أن الموفد وصل متأخراً وأن الادارة الأميركية رفضت عرضه. في حين نفت سورية هذه المزاعم وقالت انها مختلقة بهدف الضغط السياسي عليها. تقول الادارة الاميركية ان أمام النظام السوري حلين كليهما مر: إما التعاون مع لجنة التحقيق وتقديم المتورطين الى المحكمة الدولية التي ستنشأ قريباً... وإما رفض التعاون واعلان العداء للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. ففي الحل الأول يمكن ان يخرج بشار الأسد بانتصار داخلي كما فعل والده عندما أبعد شقيقه رفعت تجنباً لصراعات بين أجنحة الحزب وأفراد الأسرة. أما في الحل الثاني فإن النظام سيواجه العزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية بطريقة تمنعه من تحقيق نقلة نوعية تؤهله لدخول مرحلة جديدة. في دمشق، أكد المستشار القانوني في وزارة الخارجية السورية رياض الداوودي، ان بلاده مستعدة لمتابعة التعاون مع اللجنة الدولية، وذلك عن طريق القيام بتحقيق خاص فيه الكثير من الشفافية. ومن المؤكد أن الولاياتالمتحدة سترحب بهذا التحقيق بعدما أبلغتها اسرائيل ان انهيار النظام السوري تحت وطأة الضغوط الخارجية، سيمهد الطريق لوصول"الاخوان المسلمين". وتخشى اسرائيل عندئذ من تحقيق طريق مشروع"هوشيه منه"شرق - أوسطي، كما تحلم ايران، يبدأ عند طهران مروراً ببغداد ودمشق، وانتهاء بجنوب لبنان. وكي لا يتحقق هذا المشروع، يتردد في الأممالمتحدة ان النظام على استعداد لتقديم ضحية ثانية، مثلما قدم غازي كنعان نفسه ضحية عن جريمة لم يقترفها! * كاتب وصحافي لبناني.