عشيّة تسجيل عملها المعروف The main ingredient، اشترطت شيرلي هورن على شركة الأسطوانات أن تبني أستوديو في منزلها... ودعت بعض أصدقائها من كبار موسيقيي الجاز، وبينهم إلفين جونز وروي هارغروف إلى الغذاء. أعدّت لهم وجبة شهيّة. أكل الجميع ثم انتقل الجميع إلى الصالون، وسجّلوا الأسطوانة الشهيرة. على غلافها يمكن حتّى أن نقرأ مكوّنات تلك الوجبة التي لا تنسى. هذه الطرفة وحدها تختصر حياة وشخصيّة المغنيّة وعازفة البيانو الأميركيّة، احدى آخر الكبار في عالم الجاز التي انطفأت الخميس الماضي في منزلها في ضاحية واشنطن، كا أعلنت شركة اسطواناتها"فيرف ريكوردز"أمس، عن عمر يناهز الواحدة والسبعين. المغنيّة المعروفة ديانا كرول تعتبر أنّها أكثر الفنّانين تأثيراً عليها. مغنية الأوبرا السوبرانو رينيه فليمينغ قالت عنها:"إنّها تحطّم قلبي، تدفعني إلى الجنون. وجدت نفسي أصرخ كالمجنونة في احدى حفلاتها". وقبيل رحيله، أعلن العملاق مايلس دايفيز:"ليس هناك إلا مغنية واحدة، أنها شيرلي هورن". هذه"الزنجيّة"التي لم تتعب يوماً من الفرح والاقبال على الحياة عاشت أيّامها الأخيرة في حالة صراع مع المرض. بترت ساقها بعد تفشّي مرض السكري، فصارت تتحرّك على كرسي نقال، وفتك بها سرطان الثدي... لكنّ البسمة نفسها بقيت تلازم وجهها، خلف ستار كثيف من الدخان الذي تنفثه من سيجارة لا تفارقها هي الأخرى. صوت غارب وسيبقى صوتها مقترناً بكلاسيكيات الجاز Standards التي أدّتها بأسلوبها الخاص، وتركت عليها بحّتها وبصماتها. في العام 0691 ولم تكن شيرلي قد أصدرت سوى أسطوانة واحدة، أغرم مايلس دايفيز بصوتها"العميق، والعذب، والغارب"، فاشترط على منظّم حفلته أن تقدّم هورن الجزء الأوّل من حفلة Village Vanguard ... وترردت المغنية في قبول العرض، هي المعتادة على الغناء في احدى حانات واشنطن، لكن المعلّم أقنعها وصارت السيدة المطلقة الحاكمة بأمرها في نوادي الجاز في نيويورك. هورن معروفة بادائها الهادئ والبطيء، وبقدرتها على التلاعب في العُرب والتلوينات الايقاعيّة... وضعها النقاد في مصاف الكبار، إلى جانب سارا فون وإيلا فيتزجيرالد، فيما بقيت هي ترفض كلّ التصنيفات، وتردد في الحوارات الصحافيّة والتلفزيونيّة:"كفاني أن اعتبر مغنيّة جيّدة، هذا كلّ ما أطلبه". ولدت هورن في الاول من ايار مايو 4391 في عائلة سوداء من الطبقة المتوسطة في واشنطن. بدأت في عزف البيانو طفلة، وشاركت في أوّل ثلاثي جاز خلال دراستها الجامعيّة، قبل أن يلفت صوتها المميّر كوينسي جونز ومن بعد عازف الترومبيت الأسطوري ميلس دايفيز. لكن شهرتها الأولى في ستينات القرن الماضي، ما لبست أن خفتت إذ اختارت أن تبتعد عن الأضواء فترة طويلة، مكرسة وقتها لتربية ابنتها، ومكتفية بالجلوس في ساعات وحدتها الى بيانو ال"ستاينواي"الذي ورثته عن جدّتها... ولم تعد شيرلي هورن إلى دائرة الضوء إلا بعد تعاقدها بعد شركة الأسطوانات الأشهر في عالم الجاز Verve، فكان أن ذاعت شهرتها عالمياً، واكتشفها الجمهور أو أعاد اكتشافها على نطاق عالمي واسع، وأحيت حفلات كثيرة في الولاياتالمتحدة واوروبا. وأصدرت عدداً من الأسطوانات التي حققت أرقام مبيع عالية، ولعل أبرزها I remember Miles التي توجّه فيها تحيّة خاصة، ولفتة اعتراف بالجميل إلى مايلس دايفز. قريبة من الباروك وتبقى هورن أقرب مغنيات الجاز الى موسيقى الباروك... فإذا كان الباروك يستند الى سلسلة من الزخرفات الميلوديّة المرتجلة، فإن الجاز كما فهمته وأدّته شيرلي، يقوم على استيحاء مقام نغمي معيّن، والتنويع عليه حتّى الابتعاد منه فلا تعود الاذن قادرة على التعرّف إليه. وإذا كانت هورن"ملكة الارتجال"، فلأنّها كانت تستند الى مهنيّة عالية، وسيطرة على أدواتها تخوّلها تلوين النوطات والكلمات. وفي آخر حياتها، لم تعد قادرة على الدوس على دعاسة البيانو، لكن صوتها أخذ يتجوهر، ويقترب من البلوز، كما تشهد تسجيلاها الأخيرة، وفي أحد آخر الأحاديث التي أدلت بها لمجلّة موسيقيّة أميركيّة، تقول شيرلي:"أغنّي الآن وأنا أتخيّل أن أوتاري الصوتية هي دوسات البيانو. وأنا الآن أتمرّن على استعمال الساق الاصطناعيّة، كي أجلس مجدداً إلى البيانو. سأعود قريباً للعزف". لكن الزمن لم يمهلها الوقت الكافي لتحقيق حلمها الخير.