يبدو الحديث عن رسالة تأتي عبر البريد العادي وكأنه نبش في ماض بعيد، ورؤية المسحراتي في شهر رمضان باتت أكثر حضوراً من رؤية ساعي البريد الذي عرف ? كلاسيكياً - برجل الدراجة المرتدي قبعة ويحمل معه جراباً جلدياً فيه رسائل ينتظرها أصحابها على أحر من الجمر. والبريد في عمان لم يعرف ذلك الرجل، انما رأى المعاصرون سيارة حمراء تأتي لتجمع ما في الصناديق الحمر المنتشرة في أمكنة كثيرة، ويضع رزمة قادمة في مبنى قريب، فيه صناديق تتبع جهة حكومية أو مدرسة ونادراً ما تتبع أشخاصاً، ومنذ عقد تسعينيات القرن الماضي انتشرت الصناديق الخاصة لحاجة كثير من البشر لعنوان بريدي يأتي اليهم برسائل الفواتير وكشف الحساب المصرفي... وربما رسالة من غائب، قد لا يهتم بالكتابة وبالتالي لن ينتظرها الصندوق الصغير بمفتاحه الغريب. منذ أن غابت تلك الأوراق الملونة التي كانت تفاجئنا برائحة ليست سوى روائح في أذهاننا تتضمنها رسائل الغائبين من أحباب وأصدقاء لم نعد نهتم بصندوق البريد.. انه يهدينا فقط ما لا نريد غالباً: فواتير الهواتف والانترنت ورسائل شركات الخدمات تنبهنا الى ان تأمين السيارة قارب على الانتهاء، ومن المصرف تفيد بأن الحساب يحتضر، والمبلغ المعتاد أن يأتي أواخر الشهر لم يستطع مقاومة الرياح التي تهب عليه بخاصة من فتحات ماكينات الصرف الآلي التي لا تدع عذراً أمام المرء في أن المصرف مغلق... والصباح رباح. غربت شمس تلك العلاقة الحميمة التي تجعل قلوبنا تخفق حين نفتح صندوق بريدنا الخاص، نبضات تتوقع رداً من حبيب غاب عن العين ولم يغب لحظة عن الفؤاد، ومسافر نود لو نعرف كيف دارت به صروف الدهر، لهفتنا تتفوق علينا في توقع تلك الحروف الدالة إلى شخصية المرسل وكلماته الدالة على مكانته، كل حرف تترقبه نبضة وكل رائحة حبر تكون عبقاً كأن المسافر ارسل شيئاً من روائح وروده وأزهاره. في الرسائل التقليدية العمانية كان هناك ما يشبه الاتفاق على صيغة محددة تبدأ بالسؤال عن صحة وأحوال المسافر، وبعدها: واذا سألتم عنا فنحن بألف خير وعافية ولا نشكو سوى فراقكم الغالي علينا. في عصر الانترنت والهواتف المحمولة والرسائل القصيرة وأخيراً رسائل الوسائط خطف الكثير من المشاعر، وبات البريد يشكو الهجران والصمت الكئيب فلا أحد ينتظر منه رسالة تأخرت كثيراً، ولا أحد على بابه يكاد قلبه يقع من قفصه الصدري أملا في وصول المنتظر وخوفاً من تأخره أكثر. لكن كيف يبقى البريد مبنى له زبائنه ومرتادوه؟ بعد تخصيص قطاع البريد في عمان ليصبح"شركة بريد عُمان"كان لا بد من خلع العباءة الرسمية قليلاً والدخول الى عصر السوق حيث الربح له الأولوية بخاصة اذا اقترن بخدمات لا تعترف بقوة العباءة الحكومية الحامية من حر الصيف وبرد الشتاء، بل بالريال الذي يؤكد أن الشركة ربحت فيصفق لمجلس ادارتها أو خسرت... وعلى السادة الكبار ان يرحلوا. بدأت الشركة المخصصة بالتعاون مع مجموعة جهات حكومية تكون منافذ تصل الى ما يقارب المئة لخدمات عدة لا تستدعي من صاحبها الوقوف في طوابير لانجازها، بل يذهب الى اقرب مكتب بريد له ويدفع ريالاً واحداً فقط لتجديد سجل تجاري وغيرها من الوثائق الرسمية. وبعد هذه الخطوة اعلنت شركة الاتصالات"عُمان موبايل"توقيعها اتفاقاً مع قطاع البريد لتقديم خدماتها عبر مكاتبه، لتعيد اليه بعض المجد الذي سرقته منه، وهي مدركة أن ما أعطته اياه موجود حتى في محلات البقالة كبيع بطاقات الهاتف المدفوعة مسبقاً وشراء خطوط جديدة، لكنه السباق على هذا الانسان بخاصة بعد دخول شريك آخر منافس، الأمر الذي جعل من"عُمان موبايل"تستيقظ وتتذكر أن الزبون لديه خيار آخر بعد أن كان حكراً لها تقدم له أو تمنع عنه ما تشاء. والداخل الى مكتب البريد لا يدور في خلده البحث فقط عن رسالة تأتي أو لا تأتي فالصندوق أصبح خالياً الا من رسائل الفواتير والدعايات، هناك يمكنه شراء خدمات الاتصالات بسهولة تامة لا تقتضي الوقوف في طابور من المراجعين، وليس في حاجة الى انتظار موظف السجلات التجارية لتجديد سجله التجاري وموظف ادارة الجوازات والاقامة للنظر في الوثائق الرسمية التي انتهت وحان وقت تجديدها.. ببساطة لأن هناك موظف البريد الذي يمكنه استلام مجموعة من المعاملات بالقرب من منطقة سكنى المراجعين، وحينما يفتح المرء بريده يجد أن المعاملة قد وصلت اليه من دون مشاق، أقلها البحث عن موقف لسيارته، بخاصة في محافظة مسقط. بهذه الخطوة وغيرها يأمل مبنى البريد أن ينفض عن نفسه غبار الذكريات التي كانت، في محاولة للبقاء ضمن عصر سحب منه أشياء عديدة متجها للتكنولوجيا. ولعل هذا القطاع أراد الإفادة من ثورة الاتصالات ليكون في قلب الحدث، وعلى أقل تقدير مرتبطاً بها من بعيد، ربما في محاولة أخيرة للتمنع واقناع البشر العصريين بأنه قد يكون مفيداً لهم ولا داعي لتحويله الى دفتر الأشياء المنقرضة كنوع من التواصل الانساني أحيل الى التقاعد لأن البشر ما عادوا متمسكين جداً بإنسانيتهم التي كانوا عليها. ويقتربون يوماً بعد يوم من انسان الروبوت الذي صنعوه بأيديهم، فيما يصنعون عالماً شبيهاً بعالمه لأجلهم أيضاً.