في الأيام الأولى لسقوط النظام العراقي السابق استولى أنصار"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية"على مبنى"قاعة الرباط"في منطقة الوزيرية في بغداد وانزلوا اللافتة التي تشير إلى"الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية"التي تتخذ من المبنى مقراً لها، ورفعوا بدلاً منها لافتة الحزب وميليشياه، مثلما استولى"حزب الدعوة - تنظيم العراق"على مقر"مدرسة الموسيقى والباليه"الواقع في شارع دمشق. وإذ تمكن عازفو الفرقة السيمفونية التي تعتبر الأعرق في المنطقة والتي تأسست بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات، ومعلمو المدرسة التي تأسست أواخر ستينات القرن الماضي من إقناع قياديي الحزبين الإسلاميين بإخلاء المبنيين بوصفهما"مصدر رزق"لمئات الفنانين والموظفين، إلا ان الحادثين كشفا عن نيات"القوى الجديدة"في إحداث تحول ثقافي نحو الحد من الموسيقى، واعتبارها من"المحرمات"بحسب القوى التي وجدت من القيم المحافظة السائدة في المجتمع العراقي بسبب الحروب والحصار حاضنة واسعة ومؤثرة لتوجهاتها الفكرية والثقافية.ومن الفلوجة إلى البصرة مروراً ب"مدينة الصدر"في بغداد جاءت فصول محاربة الموسيقى. ففي منتصف العام الماضي، وفي عز سطوة القوى الأصولية في الفلوجة، حكم بجلد خمسة عراقيين كانوا يبيعون اسطوانات الغناء والأفلام مع التهديد بقطع رؤوسهم إذا ما عادوا إلى ذلك. وفي البصرة التي وقعت تحت قبضة قوى متشددة قبل غيرها من مناطق العراق، بدأت ملاحقة الموسيقى والموسيقيين، ولم يعد غريباً أن يكتب شعراء الأغنية العاطفية كلمات تناسب مطالب هؤلاء، تنفيذاً لأوامر المجموعات المتشددة التي لا تتردد في تصفية كل من يخالفها ثقافياً وسياسياً. كما لم يكن يخطر في بال طارق الشبلي، ملحن أغاني شجن بصري، انه بعد سنتين من رحيل النظام الذي كان اعتقله لفكره المغاير للحزب الحاكم، سيتحول في"عهد الحرية"من ملحن وموسيقي مشهور غنى له اشهر المطربين العراقيين، إلى سائق تاكسي يخاف أن يفتح مسجل سيارته فقد يكون الراكب من الذين يحرمون الغناء. موسيقيون شباب في البصرة أو في"مدينة الصدر"في بغداد حاولوا تجاوز المحظورات، وانسجموا ذوات ليال مع ألحانهم وأغانيهم وأحزانهم فنالوا وآلاتهم الموسيقية من الضرب والعنف ما جعل أهونها تكسير آلات العود على رؤوسهم. وفيما أغلقت محال بيع الاسطوانات الموسيقية أبوابها، فان أربع ورش عرفت بمهارتها في صنع آلات العود في البصرة أغلقت خوفاً من تهديد الجماعات التي أعلنت الحرب على الفرح والمدنية، ومن بين تلك الورش ما يفخر عازف العود والمؤلف الموسيقي العراقي نصير شمه بالعزف على واحدة من آلاتها الرهيفة والمتقنة. مقر اتحاد الموسيقيين في البصرة الذي يضم أكثر من 300 موسيقي يعانون، كما حال الشبلي، ضنك العيش والخوف الدائم من تهديدات الجماعات المتشددة، تعرض للتفجير ولحقته إلى المصير ذاته مكاتب الفرق الموسيقية المتخصصة بإحياء الأفراح العائلية، وهي فرق صارت جزءاً من الموروث الروحي الشعبي للمدينة التي تفخر بأنها قدمت للثقافة العراقية والموسيقية تحديداً أسماء: المؤلف والملحن حميد البصري، الملحن كوكب حمزة، المطرب فؤاد سالم، المطربة سيتا هاكوبيان، الملحن حسين البصري، الملحن طالب غالي وغيرهم الكثير من الموسيقيين والمطربين الذين لم يخطر ببالهم يوماً ان تتحول مدينتهم التي جبلت على الانفتاح الثقافي والاجتماعي إلى مكان يطارد فيه أصحاب النغم الشجي والألوان الموسيقية التي يتداخل فيها العراقي بالخليجي والهندي بالإفريقي. وإذا كان هناك من الموسيقيين والمطربين من"انسجم"مع "التحولات الجديدة"فتحول إلى وضع الألحان الحماسية المرافقة للمناسبات الوطنية وغيرها، فإن عدداً منهم آثر التخلي عن الموسيقى إلى مهن لكسب رغيف الخبز، ومنهم طارق الشبلي الذي يعرفه البصريون اليوم سائق تاكسي. الخيمة الحكومية في بغداد حيث المؤسسات الموسيقية الرسمية، يحتمي العازفون والملحنون بالخيمة الحكومية، لكن ذلك ومع"الأولويات"غير الثقافية للحكومة بدوا غير فاعلين وان استدعتهم المؤسسة إلى تنظيم حفلة بين فترة وأخرى، كما في دعوة"دائرة الفنون الموسيقية"في وزارة الثقافة إلى إحياء"مهرجان محمد القبانجي الأول"خلال الفترة من العشرين ولغاية الثاني والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر المقبل. ويبدو"تفاؤل"الملحن وعازف القانون حسن الشكرجي، المدير العام لدائرة الفنون الموسيقية ورئيس اللجنة التحضيرية للمهرجان، بأن فعاليات المهرجان ستشمل تقديم وصلات غنائية من إقليم كردستان والموصل وكركوك ومشاركة من"فرقة عشتار للبنات". لكنه، في الوقت نفسه، يبدو عاجزاً عن إقناع الموسيقيين بالبقاء في بلدهم، فعازفون من"الفرقة السيمفونية الوطنية"شبه العاطلة عن الحياة آثروا الهجرة إلى الخارج بعد تلقيهم تهديدات بالتصفية من جماعات التمرد المسلح بعد إحيائهم حفلة في واشنطن حضرها الرئيس جورج بوش العام الماضي. وكان مدير"بيت المقام العراقي"المطرب حسين الأعظمي أحد ابرز الأسماء الموسيقية العراقية التي هاجرت من البلاد.