بعد شطر طويل من رواية الكاتب العراقي علي بدر"الطريق إلى تل المطران"يرسم الراوي نفسه كما يرسم الرواية بقوله:"جندي صغير تسرّح من الجيش ونجا من الحرب وهو عاطل من العمل، ليس لديه إيمان كبير، ليست لديه مبادئ عظيمة يريدها للناس، أو يفرضها عليهم، جاء ليعمل ويكسب مثله مثل الآخرين، معلم للعربية في كنيسة كاثولويكية في شمال العراق، بقي بعيداً على الدوام من التاريخ المأسوي للعالم، وفجأة وجد نفسه في هذه المتاهة. ماذا يصنع؟". غير أن هذا الراوي يسوق ما هو بمثابة مقدمة للرواية - المتاهة، يطل فيها مع صديقته ليليان الكلدانية المثقفة وغير المتعصبة والمهتمة بتاريخ وثقافة الكلدان. والرجل بعد تسريحه من الجيش وانتهاء الحرب أية حرب؟ والتبطّل يعمل في صالة الروليت في"ميريديان"بغداد، ثم يعمل عند تاجر موسوعات علمية وطبية، فيلخص موسوعة العالم الروحاني لمجتبى صده الشيرازي، مما يقوده إلى موسوعات الأبراج وتحضير الأرواح والكواكب. ويعثر على كتاب السير كارما الذي يبحث في الكف ومعرفة خطوطها السرية والخفية، وتصير للراوي خبرته في قراءة الكف. وستقود الست صافيناز الرجل إلى المتاهة الرواية إذ تحمّله رسالة إلى راعي بيعة الكلدان الكاثوليك في تل مطران: الأب عيسى اليسوعي الذي طلب منها إرسال"رابي"ليعلم العربية لأطفال تل المطران. هذه المرأة التي تصفها ليليان بالخطيرة والداعرة والثرية وذات الجذر الآثوري، يراها الراوي تفترس الكلام وتعبر عن مطاطية رغباتها الروحية القوية من طريق العينين والأعصاب والعضلات. ويعلن الراوي أن قوة صافيناز الروحية التي تحيل الشمس قرصاً من الطين، قد خلخلته، كما اكتسحته روحها العارية بهيئتها الوحشية. وبمثل هذا الأسلوب في رسم الشخصية الروائية، يأتي رسم الشخصيات الأخرى، وأولها ليليان التي تبدو أيضاً قناة سردية لتصريف ما تحفل به الرواية من معلومات. فعلى أهبة سفر الراوي إلى"تل المطران"تحدثه ليليان عن السريان في الموصل وعن هجرة الأثوريين... وبتواتر مثل هذا التصريف للمعلومات الحاشدة، ستلوح الانثربولوجيا في الرواية أقوى فأقوى، وناتئة أو سلسلة، كما سيلوح التاريخ أو النقد الأدبي أو الفلسفة... وكل ذلك في إهاب كرنفالي تسمه البوليسية أحياناً، وتتفجر فيه المخيلة دوماً. مع وصول الراوي إلى"تل المطران"تبدأ المتاهة: كل من يراه يهرب منه. أما سر ذلك الذي ستجلوه شميران فهو رؤيا طفلة كردية منذ سنين:"حين يأتي الغريب... ويموت القاشا عيسى اليسوعي...". وها هو الشطر الأول من الرؤيا يتحقق بقدوم الغريب الذي سيرسم عالمه الجديد الغرائبي، فيفصل في الوصف على نحو يضارع ما اشتهر به صنع الله إبراهيم من التفصيل والدقة، وهذا ما تعلنه مقدمة الرواية في وصف المكتبة البريطانية في بغداد أو محطة القطار... ثم يتوالى في وصف السائق الكردي الذي نقل الغريب إلى"تل المطران"، وفي وصف التل: الخان وبازار العطور والبائعات المسيحيات والخمارة والمقبرة ومكتبة الكنيسة وشارع النبي دانيال وقصر المختار وأوتيل ريزان وغرفة شميران... على أن الوصف يتضاعف تألقاً ودقة كلما تعلق بالشخصيات - كما سنرى - وبالجماعة حيث تلوح الكرنفالية منذ تلاطم الميدان بحشده مع وصول الغريب في البداية، حتى تلاطمت في النهاية المواكب عند الجامع: أثواب بيض وعمائم ملونة ودفوف وبيارق حمر زعفرانية ومطر ونساء بأثواب ملونة ألواناً بدائية، وصنوج ومجامر النار وخيول تحمحم ومقاطع لابن عربي تصدح... أما الشخصيات فأبرزها القاشا القس خوشابا الساعور الذي يشبه شخصية من شخصيات روايات دانو نزيو الشريرة، والذي يعلل للراوي نفور الناس منه بخشية الكلدان من الغرباء خشيتهم من الموت. ويبدو القاشا مثقفاً بامتياز، لا يفتأ يمطر الراوي بأطروحاته. فهو يرى العالم على شفا هاوية، والشر أصيلاً، والتدمير والتخريب ضروريين لبناء يوتوبيا جديدة. ويدعو القاشا إلى العودة إلى زمن الإرهاب الارستقراطي، زمن التغطرس. ويدعو إلى الاستنكاف الأخلاقي أي نفور المثقف من الغوغاء والحثاله، وإلى الحلم بفنانين طغاة. وغاية ما يجلجل القاشا خوشابا به هو ان الغرب أخفق في ديانته الجديدة: العلم، بينما:"نحن الذين يمكننا أن نبتكر الجديد". والسيد لن يكون إلا آسيوياً، فآسيا وحدها القادرة على تجديد شباب العالم. إذا كان الراوي يعدّ خطاب القاشا رعوياً مشبوباً، فهو سيترجّح بين هذا الخطاب وخطاب شميران حفيدة المختار، والتي ستلفع الرواية البوليسية والغرائبية. فهذه التي ستتوسل السحر كي يقع الراوي في عشقها، تأتي به سراً إلى غرفة أمها، حيث يرى صورته هو معلقة، فتؤكد شميران أن الصورة لوالدها الذي قضى. وتدع لغز الشبه حد المطابقة بين الرجلين معلقاً، لتسرد قصة أمها المتوفاة مع المعلم الذي جاء إلى تل المطران منذ عشرين سنة، وبعدما ظفر بعذرية الأم هرب، فلم يعقبه معلم حتى جاء الراوي الذي تواقعه شميران في سرير الأم وعشيقها، فيتغلل لغز الصورة المعلقة بغلالة العقد النفسية، كما تتغلل شميران نفسها بالصور التي تتراءى للراوي فيها. فمن صورة المرأة القوية الجميلة الخصيبة التي تشعره بالتنوير وهي تبشر غريزياً بالقانون الحيوي للحياة، إلى صور الجزء العضوي المتمم للحياة العظيمة الممنوحة من الله، إلى صورة المثل الإنساني الكبير من دون مذنبين عظام، إلى صورة الحظ المحتوم في صميم الطبيعة البشرية، إلى صورة الفضيلة الفعالة التي تقوم على أساس الخير والحق... وعبر المواقعة التي فاضت بهذه الصور - الغلالات، كانت شميران تعبر ببساطة عن العواطف الكبيرة والأخلاق الكبيرة، كما كانت تريد للراوي أن يشعر بنوع من الأبدية المناقضة لما تقدم من أفكار القاشا خوشابا. فهذه الأبدية تستثمر الرحمة التي يقدمها جسد الأنثى لجسد الذكر، وهي الطريقة الوحيدة التي تحذف باستمرار فكرة الموت وفكرة الشر وفكرة الانتهاك مما يبشر به القاشا. وهذه المرأة الاستثنائية تجيد العربية وتعلم الأطفال، فلا يبقى لمن أرسلته صافيناز - في بداية الرواية - إلى القس عيسى اليسوعي ما يعلمهم إياه طوال الراوية. بل إن المعلم الذي أرعب وصوله المدينة كما أرعبته، ينسى الرسالة وصاحبتها والمرسلة إليه حتى تدنو الرواية من نهايتها، لأن تل المطران استغرقه بالقصص الفرعية التي ستتوالد وتسلمه من شخصية إلى شخصية منذ نزل في أوتيل ريزان، وجاور تيمور الجندي الذي عشق العاهرة فريدة، ومن أجلها أقام في البلدة بعد تسريحه. ولئن كان تيمور والراوي سيتشاجران مثل حيوانين يعزم واحدهما على قتل الآخر، جراء شكوك تيمور باستمالة الراوي لفريدة، فالأخير يلوي عنها، كما يلوي عن سواها. وسيُعلل ذلك في نهاية الرواية ببيوريتانية علاقاته مع النساء، إذ لم يسبق له قبل حلوله في تل المطران أن واقع إلا ليليان. أما القصص الفرعية فلا تفتأ تنمّي الرواية وتؤكد امتيازها في تصوير شخصياتها، ومنها بخاصة شخصية يوسف خوري الأكثر بدائية في تل المطران، والذي يحدث الراوي عن المرأة الحساسة والمرأة الموهوبة والمرأة التي يرقد الشر في أعماقها... وهو من يمارس السحر ويرى كل امرأة عاهرة. لحظة تراجيدية لا يشغل يوسف خوري إلا الانتقام من إيلين زوما التي لم تندغم قصتها الفرعية في نسيج الرواية، إذ جاءت القصة مثل اعتراف كنسي بين يدي الراوي في لحظة تراجيدية:"أعرف أني ميتة، لذلك أريد أن أعترف". وبذا تبدأ قصة عشق أكثر غرابة من قصة عشق تيمور وفريدة. فإيلين التي كان والداها ينظران إليها مثل فضيحة، والرجال ينظرون إلى جسدها - حتى أصدقاء والدها - كأنهم يريدون التهامها، سيعصف العشق بها وبزيا. لكن الحرب تأخذ زيا إلى الجبهة، وينتهي به الأمر إلى سجين جراء ضربه عسكرياً، بينما إشاعات تل المطران تتهم ذات الجسد الاستثنائي بتسليمه كي تتفرغ لعشاقها، ومنهم وردة قصة فرعية أخرى ويوسف خوري الذي يزور زيا في السجن ويوقع بينه وبين إيلين، فلا يبقى لها إلا أن تنتظر ساعة موتها على يدي زيا حين يخرج من السجن. وقد أعلن الراوي أن الأحداث بلغت ذروتها بلقائه إيلين، وبأنه بات يشعر بضياعه في المتاهة الرواية. وهكذا يتلاحق الموت: إيلين التي يقتلها زوجها، والمختار جد شميران، والقس عيسى اليسوعي... لكن ذلك يأتي بعد أن تنعطف شميران بالراوي وبالرواية منذ ينكشف سر الكنز في قصر جدها. وهنا السرّ المكنون في مخطوطة كتاب"راميشوع الشايب"هو ترويع الضابط التركي لليزيديين في منطقة سنجار، ما جعلهم يودعون ما جمعوا من خزائن الذهب لدى الشيوخ الأكراد الهورمان الذين أودعوا الذهب بدورهم عند جد شميران، لأنه صديق الضابط التركي. تلك هي القصة الفرعية الأخيرة التي تنتهي بعثور شميران على الكنز، وباكتمال علامات ظهور المخلص كما سبق في رؤيا الطفلة الكردية. ولأن الرواية باتت في عجلة من أمرها - بعد أناتها طوال مئات الصفحات - أخذ الموت يتلاحق، والذعر يبلو المدينة بالهياج، فإذا بالراوي يقتل القاشا ويتلبسه هاتفاً بالناس:" السلام لكل البشر"و"آسيا ستجدد شباب البشرية". على أن الرواية لا تكتفي بهذه النهاية العجلى، لذلك تفرد صفحات لما هو بمثابة الخاتمة، نظير ما رأينا مما هو بمثابة المقدمة. وفي هذه الاستطالة يعود الراوي إلى ليليان، فإذا بكل ما كان له في تل المطران كابوس المريض المحموم، والرجل لم يغادر شقته في بغداد. ولكي يتحقق من ذلك يمضي مع ليليان إلى الموصل بحثاً عن تل المطران، فإذا بها بلدة دائلة شيدها الإنكليز عام 1919، ودمروها في الثلاثينات. وكانت تستقدم معلمين مسلمين لتعليم أطفالها العربية، إلى أن كان ما كان بين والدة شميران والمعلم، فأبطلت الكنيسة هذا التقليد حتى ظهر الراوي. وسيلتقي الراوي وليليان في استطالة خاتمة الرواية بالقس الموصلي الذي ينطق خطابه بما يبدو المحاكمة التي يريدها الراوي للجيل السابق، جيل القسّ الموصلي والقاشا خوشابا، الجيل الذي كانت حداثته مترجمة، وكان يريد تغيير العالم سريعاً، ولا يختلف عن المجتمع الذي يدينه: إنه الجيل المسؤول عن العربدة في الحياة السياسية والاجتماعية. لكن هذه الجلجلة في النقد الذاتي أو الاعتراف تنتأ في النتوء الذي يمثله ما هو بمثابة خاتمة الرواية. أما الأهم فهو أن رواية"تل المطران"في جماعها قدمت تخييلاً ثراً للفسيفساء العراقية الإتنية والدينية والحضارية. وپ"تل المطران"بذلك تعزز الإنجاز الذي حققه الكاتب في روايته الأولى"بابا سارتر"2000، ليتأكد بالروايتين امتياز صوت علي بدر في الرواية العراقية والعربية.