من عتبة الغلاف الأخير لرواية أحمد المديني «ظل الغريب» (المركز الثقافي العربي، 2007) تبدأ اللعبة الروائية بالإيهام بالسيرية، إذ يخبر الكاتب أن بطل الرواية علي بن زروال كان قد روى له نتفاً منها في زمن الجمر المغربي، أي في سبعينات القرن الماضي، ونسيها الكاتب طويلاً، ثم جمعها أشلاءً، ولبس جلد بطلها «فأكون هو، وهو حتماً ليس أنا». ولأن الأمر كذلك– ربما– كان للرواية راويان: بطلها، والسارد الذي لا يفتأ يُعيْن في السرد أو يضيء شخصية البطل. وسوف يتناوب الراويان على السرد، الأول بضمير المتكلم، والثاني بضميري الغائب والمخاطب، ولكن الحصة الكبرى هي للأول. وفي العتبة الأولى (العنوان) يجتمع الاسم/ الصفة مع المكان. أما «الغريب» فمناطه في مجيء المغربي علي بن زروال (هجرة أو نفي طوعيان ينطويان على قسر) لتدريس التاريخ في الجزائر. ولسوف يتخيل أمام تمثال الأمير عبدالقادر الجزائري أن الأمير بعد أن يحدثه عما في الجزائريين قومه من غلظة أحياناً «ولكن لا أرحم منهم» – ينهاه: «لا تشك بعد إني غريب، فنحن جميعاً في الدنيا غرباء إلى ملقانا يوم الدين». وربما كان مناط آخر للغريب في استذكاره لميرسو بطل رواية ألبير كامي «الغريب»، وليس فقط حين يعبر في فرع من شارع/ حي محمد بلويزداد من رواد الثورة الجزائرية، حيث قضى ألبير كامي شطراً من طفولته ويفاعته. أما تتمة العنوان أو العنوان الفرعي (جوج بغال) فهي نقطة العبور الحدودية بين الجزائر والمغرب. وقد تصدرت الرواية بشرح أسباب هذه التسمية للمكان الذي يبئر الرواية في مبتدأها ومنتهاها، ليأتي بناؤها بعودة علي بن زروال من الجزائر برّاً عبر «جوج بغال»، حيث ستكون سردية المعاناة البيروقراطية المريرة، كما سيتبين في الفصل الأول وفي الفصلين الأخيرين التاسع والعاشر من الرواية، بينما تتوالى عبر الفصول الأخرى وتتفتق الارتجاعات، وأحياناً تشتبك، لتغطي تجربة بن زروال الجزائرية، وما سبقها من زمنه في بلده. من ماضيه في دار غفلون– هكذا ينعت بلده– يمضي هذا الغريب مسكوناً بصوت المؤسسة الأمنية الذي يجلجل» الإنس والجن معنا. أنت نفسك في خدمتنا من غير أن تعلم». وكذلك هي جلجلة المخبر التي يهجس بها الغريب حتى في الجزائر: «سأبقى حذوك النعل بالنعل حتى تكشف عن سرك من سبب هذا الرحيل المفاجئ». وفي الجزائر لن يكون أمر بن زروال أفضل، فهو تحت العين الرقيبة. ولئن كان الحال في المغرب «شعب كله دايخ» فالجزائر بلد الغش والممنوع على من ليس لهم من يحميهم مثل علي بن زروال، فأولاء رعايا لا مواطنين». ومن ذلك الماضي البعيد، يستعيد بن زروال ذكريات الجامعة في الرباط وعلاقته التي تسكنه بغيثة، وأحداث 23/3/1965 حيث ألقي بجثث الطلاب في البحر، وكذلك وقائع الانقلاب العسكري في 16/8/1972، واعتقال حسن الذهبي، أحد رفاقه، وهلع الخلية الحزبية التي ينتمي إليها، واختفاء عبدالله الشرقي الذي يحرض بن زروال على السفر. وسوف يستعيد بن زروال من بعد الصراع الذي نشب بين الجزائر والمغرب عام 1963، ومعاضدة الملك محمد الخامس للثورة الجزائرية، كما سيستعيد في مقهى عميروش في الجزائر ذكريات ضيوف والده من اللاجئين الجزائريين، ومنهم من سيلتقيه مصادفة: صديقه وصديق والده حميدو الزناتي. وهكذا دارت الأيام، وصار المغاربة يأتون إلى الجزائر، متعاونين لا لاجئين: «نحن أمة واحدة وشعب واحد، حاول الاستعمار أن يفرق بيننا، لكننا بقينا متآزرين». ويبلور بن زروال الأمر في البلدين، ليبدو من المحتمل أن تكون الثورة في الجزائر ما زالت مشتعلة، ومن المحتمل أن يكون الجزائريون لم يكملوا ثورتهم، وأيديهم تقبض على الزناد، تترصد عدواً كامناً في زاوية ما. أما المغرب فقد اغتصبت فيه الثورة، فنال استقلالاً ناقصاً مبتوراً، ومن دون اندلاع الثورة مجدداً» طغاة جبابرة، هم بالمرصاد لكل يد ولسان». بهذه العودة إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي، تبدو الرواية تحفر في التاريخ. وتتقد الحفرية بالاطراد مع شخصنة وتسريد المعلومة، والعكس صحيح، كما في الحديث عن تاريخ القصبة وتاريخ حصن برج الكيفان في العاصمة الجزائرية... لكن ما يرجح في الرواية هو الحاضر، أي تجربة بن زروال الجزائرية، بالتفصيل المدقق والمبالغ أحياناً، ابتداءً من نزوله في مطار الدار البيضاءالجزائري، والبحث عن فندق يقوده إلى أن يقضي ليلته الجزائرية الأولى في الكوميسارية، كما سيقضي ليلة في الحمام التركي. ثم يشتبك البحث عن مأوى بالعمل في ليسيه الأمير عبدالقادر الجزائري، وبخبط قدمي الغريب من شارع إلى زقاق إلى ساحة إلى حيّ إلى أي من معالم المدينة التي سيصفها بالحلزونية الدغلية الممنوعة على العزاب والعشاق، ذات الأزقة التي تشبه أوردة دموية يسري فيها بشر بحجم النمل وأضأل، وبدرجة أدنى يكون لمفردات الفضاء المغربي حضوره، وبخاصة في الدار البيضاء، فإذا بالجغرافيا ندّاً للتاريخ، ومثله: فاعل روائي مكين. مع حميدو، سيقيم بن زروال حيناً في العمارة اليسوعية إلى أن تقدم له وزارة التربية منزلاً سيشاركه فيه حميدو. وفي مواجهته جهامة المدينة وقسوتها ونبذها للغريب الذي يعيش في وحدة شبه مطلقة، تكون المرأة هي الواحة، سواء في المبغى أم في الحانة وصاحبتها الغالية، أم تلك التي ترميه بالعشق: الحليبية القبايلية والزميلة رتيبة مدرسة الرياضيات. وهنا تنبق الذكورية، كما في تعبير بن زورال عن فلاحه في التمهيد لإغوائه رتيبة: «نجحت في الغزوة الأولى». لكن عابراً من القبايليين يتصدى للغريب إنفاذاً للعصبوية العمياء، فتهرب رتيبة، وتنقذ الشرطة بن زورال من سكين المتطوع لحماية بنت بلده. وفي الفصل الأخير من الرواية يستذكر بن زروال علاقته بالفرنسية ميشيل التي ترى أن الشعب الجزائري لا يعرف قيمة الطبيعة التي تتمتع بها بلاده، ويفضلون التكدس في الحواري والأزقة، أو ينزوون في الجبال الخلفية. وهذه التي يعمل زوجها خبيراً للنفط في حاسي مسعود، تجر بن زروال إلى الفراش كشاة ذبيحة، كما يعبر، بينما يراها هو قنّاصة لذة، ويفخر بأنه خطف من هؤلاء المكبوتين أجمل طريدة، بينما يريدون نهشها، ولتكن خنزيرة برية. ويخاطبه السارد بأنه يتنطع بغزوته متل فرسان الجاهلية، ويُنطِق لسان ميشيل بانتظار هذا المغربي الجامح الذي يعترف بأنها صيرته غيوراً، حتى صرخت به: «أنا لست ملكك ولا ملك أحد، هذا جسدي وأنا حرة فيه، أهبه لمن أشاء». وهكذا تتدمر العلاقة التي كانت ميشيل نفسها تأمل بأن تتكامل فيها هي مدرّسة الجغرافيا مع العاشق مدرس التاريخ. لكن بن زروال كان عاشقاً أكبر شفافية وحرارة كما يبدو في مراسلاته مع الحبيبة المغربية غيثة. من اللافت أن مراسلات غيثة والعاشق تأتي بلغته وبلغة السارد في المقامات الأخرى، بينما تتعدد لغات الرواية في أغلب هاته المقامات، حيث العامية المغربية والعامية الجزائرية والفرنسية– مع شروحاتها– وحيث لغة جريدة الشعب والفصحى المقعّرة وابن خلدون والمنشور الانتخابي، ولغة المتناصات القرآنية الغنائية الوفيرة لأم كلثوم (قصيدة سلوا كأس الطلا...) وللشيخ محمد العنقا وغروابي ودحمان الحراشي، وبخاصة للمغنية الوافية التي تؤدي أغنياتها على الحدود المرأة الوهرانية في نهاية الرواية. ويبلغ التعدد اللغوي امتيازه كلما تعلق الأمر بالأسطرة أو الصوفية أو بالأمير عبدالقادر الجزائري الذي يحييه بن زروال لدى دخوله الليسيه التي تحمل اسم الأمير، ويغمره بالألقاب: ابن سيدي محي الدين (ابن عربي) وعمود البلاد ونور اليقين وإمام العباد وصاحب الجزائر والولي النصير وأمير البر والبحر «تحت غيمة الصوفية المدرارة، وشيخها ابن عربي». أما الأسطرة فتتركز بالمرأة- الجنية بنت القصبة، وسليلة أرض الدزاير (الجزائر) وهذه السطور المتوهجة كمثال: «اسمع يالمغربي، راك هبلت، ومعذور يا ولدي بناتنا راهم يهبّلوا، وفي خاطر مولاي إدريس، وبركة مولاي عبدالقادر، أنصحك تحوّس عليها في قصر الداي (دار السلطان) على حساب زمان. هي هكذا، وقبلك تبعها الإنس والجان من كل مكان، وما أخذ منها أحد لا حق ولا باطل...». من حين إلى حين يسعى الغريب إلى مشاركة القراءة فيما يسرد، كوعده إبّان حديثه عن مدينة تيزي وزّو عاصمة منطقة القبايل، أي أمازيغ الجزائر، حيث يخاطب القراء بأنه سيروي لهم صفحات من قصته التي يتمنى أن يتابعوها إلى النهاية «لأن فيها ما سيشوّق ويُغرب أكثر مما علمتم حتى الآن». وحين اقتربت الرواية من نهايتها خاطب القراء أيضاً بصدد ورطته على الحدود بين البيروقراطية وظهور وباء الكوليرا، ورجاهم مرافقته إلى نهاية الورطة. وفي هذه النهاية عثر على الرسالة التي كان قد حملها من المغرب إلى من سيتصل به من أجلها. لكنه افتقد الرسالة- اللغز، مما جرّ عليه العسف، وكان ذلك سانحة أكبر للحديث عن المعارضة المغربية المقيمة في الجزائر، مما يتصل بالتأرخة وبالحفرية التاريخية. لقد تضاعفت غربة الغريب علي بن زروال كما نقرأ في عتبة الغلاف الأخير، فانضافت الغربة الجزائرية إلى الغربة في الوطن: المغرب، وتعددت الوجوه «والحكايات تُسرد وتتناسل، والأحداث كثيفة وتتكاثف، والخطابات غضبٌ وولَهٌ وشجن...».