لم تزل محاولات فك الاشتباك تعتمل داخل دوائر الفقه السياسي الإسلامي المعاصر بين مفاهيم الديموقراطية بمرجعيتها الغربية والشورى ذات الخصوصية الإسلامية... وما فتئ فقهاء كبار في الفكر الإسلامي المعاصر يحاولون التوفيق والتكامل بين المدرستين دفعت أحد أبرز هؤلاء إلى القول بأسلمة الديموقراطية على قاعدة سيادة الشريعة بحسبان أنها المهيمنة على كل نظمنا ومؤسساتنا. ولعل أهم مواضع الالتباس الحاصل في أذهان كثيرين من الإسلاميين يتعلق بالقلق من مرجعية الديموقراطية وجذورها الغربية التي تسمح بمخالفة آداب وتعاليم سلوكية أمر بها الإسلام، فأكثر ما يصرح به الإسلاميون وهم يهتفون في وجوه المطالبين باعتماد قواعدها في النظام السياسي والدستوري المعاصر"أنها تعني حكم الشعب نفسه بنفسه في حين أن التشريع لله"وما تقتضيه تلك الإحالة من إقصاء شرع الله المحكم، ويستحضرون نماذج شوهاء من المجتمعات الغربية أقرّت زواج المثلين واتسعت داخلها دائرة الإقرار بحق الشواذ وغيرها من الموضوعات التي تُعد نتاج ثقافة الشعوب وفقاً لخلفيتها الحضارية والنسق الذي ترتضيه اقتراباً أو ابتعاداً عن القيم والمبادئ المحافظة والشرائع السماوية، كما يعبر آخرون عن مشاعر قلقهم من استخدام الديموقراطية لإقصاء الإسلام أو الإسلاميين عن حلبة العمل السياسي تحت ذرائع فصل الدين عن الدولة وعدم السماح بقيام أحزاب دينية، وهي يقيناً ذرائع غير مبررة تكشف عن مكامن الاستبداد المغلفة بقشور الديموقراطية. ولأننا عاصرنا في المنطقة العربية ما درج الغرب على تسميته"العالم الثالث"في إيماءة لا تخلو من إسقاط ينال من مدى إدراكنا وفهمنا لحقائق الأمور جهلاً وتخلفاً قبل أن يعني بها الفقر والتدهور الاقتصادي، لأن هذا الخلل في طبيعة الفهم جهلاً وتخلفاً هو الذي أدى بالضرورة إلى عجز الأمة عن توظيف ثرواتها الطبيعية إلى الحد الذي يكفل صناعة أمة قادرة على التحدي والانتقال من العالم الثالث إلى مصاف العالم المتمدِّن القادر على فرض إرادته. وانطلاقاً من تلك الفرضية ابتعدنا تحت مظلة مكافحة الاستعمار منذ منتصف القرن التاسع عشر عن رموز الأمة التي تنطلق من ثوابتها الدينية والقيمية وتجرعنا حكم العسكر واستبدادهم كابراً عن كابرٍ، وسوّقنا لفكرهم تحت مسميات حماية الديموقراطية في ظل نظام الحزب الواحد، وحتى عندما بلغنا قدراً من الفهم وتطورنا كانت الأحزاب مستأنسة واللجان الثورية المفترض أنها تمكن الشعوب من استلاب حقوقها تحولت هي نفسها إلى أداة استبداد وقهر. وإذا كان حرص البعض بادياً على تسويق الديموقراطية الصحيحة كما يصفونها اعتماداً على سيادة الشريعة في بلادنا، فقد جانبهم الصواب. فالمشروع الإسلامي يعاني ضموراً فاحشاً في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، ولدينا في مصر خصوصاً تراجع أصحاب هذا المشروع عن المطالبة بأحد أهم معالم مشروعهم المتمثل في تقنين مبادئ الشريعة الإسلامية عملاً على تطبيقها في شكل كامل، تلك الحملة التي عرفت أقصى درجات قوتها خلال السبعينات في القرن الماضي، فترة تولّي الرئيس أنور السادات 1971 - 1981 عندما اضطر إلى إجراء تعديل دستوري جعل المرجعية للشريعة في شكل مطلق بالنص في المادة الثانية من الدستور على أنها"المصدر الرئيس للتشريع". وعندما نشير الى هذه الإشكالية لم نشأ قطع الطريق على هؤلاء الفقهاء بالقدر الذي أردنا فيه ترتيب الأولويات والبناء على معطيات صحيحة. وإذا كانت الديموقراطية الغربية شاردة عن الشرائع السماوية ساعية إلى الانفلات من المبادئ الخلقية داعمة لنظم الاستبداد في منطقتنا المتخلفة وحريصة على إقصاء أصحاب المشروع الإسلامي منكرة حقنا في اختيار حكامنا أو عزلهم بحيث تحولت الديموقراطية عن فكرتها الرئيسة في بلاد المنشأ غرباً لتصبح أداة استغلال وحرمان للشعوب العربية من حقها في الاختيار، فإن هذا كله يفرض علينا القيام بحركة تصحيحية في الشكل والمضمون، فلا تصير الديموقراطية بمرجعيتها الغربية هي البديل عن الشورى كما يريدها الغربيون أو المستغربون فنقع في المحظور ونتبع سنن المشركين شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وفي الوقت نفسه لا نستبعد مطلقاً كل المبادئ التي تُعنى بتحقيق العدل وحق الأمة في الاختيار والعزل والفصل بين السلطات والتنوع في أشكال الحكم بحسب الوارد في علم القانون الدستوري المعاصر. فجائز أن تكون نظم الحكم نيابية أو برلمانية، كما جائز أن تكون جمهورية أو ملكية، فلا نرفض كل تلك المبادئ والأشكال لمجرد أنها صادرة عن الديموقراطية. علينا أن نتوافق في العالم الإسلامي على أن التشريع لله ابتداء وأنه في الوقت ذاته للبشر ابتناء كما اصطلح الأصوليون، فنبني على مقاصد الشرع وما توخاه لمصلحة البشر وفقاً لمصالح العباد في تطور الزمن. إننا في حاجة إلى استحداث وسائل وآليات ونظم أو نقتبسها من الديموقراطيات الغربية تتماشى مع حاجة العصر الذي نعيشه وتعبّر في شكل فاعل عن إرادة الأمة من دون أن تنفلت مجتمعاتنا من الالتزام بعقيدة الإسلام وشريعته وقيمه الأخلاقية. إننا في حاجة شديدة إلى رفض كل محاولات التدخل في شؤوننا ومقاومة فرض مبادئ الإصلاح الوارد من القوى الأجنبية، ولن يتحقق ذلك إلا بالتوافق على استرداد هويتنا وإعادة الاعتبار الى النسق الحضاري للإسلام. * محامٍ مصري.