إلى نون وميم وكاف وشين وآخرين ممن نصبوا خيامَهم على تخوم هذا العالم أنا هيدالغو دون كيشوت دو لا مانشا. خيّال هذا الزمن الرثّ، فارس حروبٍ شمطاء ساقطة الأنياب منزوعة الحوافر. أصحو، بين الجرعة والأخرى، بين"الصاروخ"و"الشمّة"، وأنادي بما بقي حيّاً في حنجرتي:"روسّينانتي"! ولا أجدها فرسي العجوز. فأتسلّق رمحي وأقلب درعي المملوء ببراز الليل الذي فات. ثم أستغرق في النحيب المملوء لُعاباً ومخاطاً وحريق أمعاء. أبكي وسخاً لا يزيله طوفان، وعصراً وغداً بلّل عيني أمي الجميلتين. وحين تتواطأ الأرضُ معي، حين تفسح لفروسيتي وألقي وشجاعتي، أنتصب واقفاً، مترنّحاً. ومن على رأس الحربة المزروعة بين عينيّ، أتناول روحي المُقدَّدة، قلبي المثقوب، والسرطانَ، وأصفاراً خَلَفَها أسرى الخيانات بذاراً للذكرى، وصورةَ أبي. ومدجّجاً أتقدّم داخل حقول غثياني، فوق سهول جسارتي، وحقارتي، بحثاً عن عدوّ يستودعني موتَه، أشتريه بعاري، أكون قتيله أو يكون هو لي القتيل. وقبل أن أرمي نفسي في أتون المعارك، أنشد بصوت الشجن الكئيب: "دولسينيا /مدينة /مطفأة /وحزينة"* /وهناك، من أعلى قمة براءتي، أرى القنابلَ مطراً من العناقيد والطائراتِ نوارسَ. أرى الجيوشَ الغازية قطعاناً من النعاج، والمروحياتِ بسواعدها الهادرة فوق رؤوسي طواحينَ هواء. وأعانق"روسّينانتي". وأبكي"سانشو بانسا"أرْداه الرصاصُ قتيلاً بين ذراعيّ. وأحلم موتَه مزاحاً، فألكزه ثم أضعه على ظهر حماره وأرسله إلى خطوط العدوّ. وأصرخ: سانشو! تفرّج عليّ أتحدّى الأسُودَ وقد خرجت من أقفاصها. أنظرْ تكسّر سيفي وتهشيم درعي وذراعي وصدري، وسقوطي المهين فوق التراب. شاهدْني أبصق الدماءَ ولا يسيل لي دمع. أنظرْ الأحذية تسحقني قبل أن أغرق في بحيرة الجنون. وأتضاءل. وأفرغ. وأتخفف من وزني وذاكرتي وانكساراتي. وأعلو. أعلو. أعلووو... سانشووووو! أنا هيدالغو دون كيشوت دو لا مانشا /لا بقية لا ذرّية لا شظية لا قشة لا تاريخ. أكره الحروبَ أكره العساكرَ وأحبّ ريشَ الصمت وهدأة المغيب أنا دون كيشوت الجديد وحيد وخفيف وخاوٍ ومطفأ وقتيل. * من قصيدة للشاعر اللبناني محمد العبدالله.