يحاول المروجون للعولمة ان يظهروها وكأنها مطلب عالمي، وحاجة جماهيرية، وقدر لا انفكاك منه. ويحاولون فصل وإبعاد العولمة عن أصلها الرأسمالي، زاعمين انها إنما ظهرت بفضل التقدم التكنولوجي في الاتصالات والمعلومات. فيخلطون عند تعريفها ما بين الفكر والعلم، و ما بين الحضارة والمدنية، وما بين الثقافة والصناعة. هذا التلبيس مقصود للتدليس على عقول العوام، ولإدعاء ان العولمة نابعة من العلم، والصناعة، والتكنولوجيا، ولإبعاد شبهة الاستعمار والاستغلال والنفعية عن العولمة وعن ممارساتها، زاعمين انها فكرة عالمية جديدة، فرضتها ظروف جديدة، جعلت من العالم"قرية صغيرة"كما يدّعون. فقولهم مثلاً:"إن العولمة هي الانتشار العالمي للتكنولوجيا الحديثة في الانتاج"واضح فيه إدخال التكنولوجيا بشكل مقصود في التعريف لزيادة الإبهام فيه. وكذلك قولهم:"إن العولمة هي التوسع المطرد في تدويل الانتاج من مثل الشركات متعددة الجنسيات بالتوازي مع الثورة المستمرة في الاتصالات والمعلومات"واضح فيه إقحام الاتصالات والمعلومات في التعريف لزيادة الإشكالية على العقول. وهكذا فإننا نلاحظ هذا الخلط بين الفكر الذي هو خاص بأمة من الأمم، كالفكر الرأسمالي الذي تولدت العولمة عنه، وبين العلم او التكنولوجيا الذي هو عام لجميع الأمم والشعوب، وليس خاصاً بأمة من الأمم، ولا علاقة له بطرائق العيش، أو بوجهات النظر عن الحياة. لذلك فعلى المفكرين ان يتصدوا للعولمة، ويكشفوا عن هذه الإشكالية في التعريف، وأن يصارحوا شعوبهم بكل شجاعة بالقول ان هذه العولمة ما هي الا نموذجاً من نماذج الرأسمالية الاستعمارية. ويجب رفضها بشكل قاطع، ويتحتم مواجهتها وردها الى نحرها. عليهم ان يبينوا ان ما تقدمه أميركا للعالم، من ان العولمة هي فكرة انسانية، ما هو الا تضليل وخداع ووهم، وعلى الأمم المستضعفة لا سيما أمتنا الاسلامية، ان تقاوم هذا المد الاستعماري الجديد، والمغلف باسم العولمة التي تأكل الاخضر واليابس، والتي أثبتت، بحسب التقارير الرسمية التي أصدرتها المؤسسات الدولية، انها أفقرت الشعوب، وقضت على صناعاتها المحلية، وربطت دول العالم الفقيرة ربطاً محكماً بعجلة الاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي تقوده أميركا. على المفكرين ان يقوموا بدورهم بكل تفان وإخلاص، فيكشفوا للعامة مدى ما وصلت اليه الشركات الرأسمالية متعددة الجنسيات من جشع وأنانية ونفعية، جعلتها تركض وراء ثروات الشعوب لسرقتها، وجعلتها تستغل عرق الفقراء لإنتاج السلع بتكلفة رخيصة، فتحقق من بيعها أرباحاً طائلة. فالعولمة، بمعناها الرأسمالي الاستعماري، ما هي الا سيطرة مطبقة على اقتصاد الدول الضعيفة، لتخلف وراءها ثماراً شوكية، من مجاعات وفقر وحروب وبطالة وتحطيم للأسرة وضياع وتشريد وأمراض تجنيها البشرية بسببها، ثم بعد ذلك يقال ان العولمة هي ضرورة بشرية أملتها التطورات التكنولوجية، على حد زعمهم. ولم تكتف أميركا بعولمة الاقتصاد لصالح شركاتها، بل إنها تسعى جاهدة لعولمة الأمن، والتعليم، والمفاهيم المختلفة، لتصهرها جميعاً في بوتقتها، وتجعل من أميركا هي السيد المطاع، والقدوة، والمثل الأعلى، وتجعل من الحضارة الغربية، بعيون أميركية، حضارة كل الشعوب المتحضرة، على حد زعمها. القدس - أحمد الخطيب [email protected]