عندما علّمني الدكتور شرابي مادة الفكر العربي الحديث، إذ كان استاذاً زائراً وكنتُ تلميذة ماجستير في الجامعة الأميركية في أوائل السبعينات، كان من جملة ما أفدته منه تعلّم بعض أصول فن قلّة الكلام. اكتشفت بفضله ان قلة الكلام قد تكون صنواً لما دلّ منه. وقد طلب مني ان أقدّم للصف تقريراً عن فكر أنطون سعادة في عشر دقائق، وبعد معاناة وتخبّط إزاء ما اعتبرته مهمة تعجيزية، توصلت الى كتابة تقرير اعتز به، لما فيه من تركيز وايجاز. كان الدكتور شرابي في تدريسه تلك المادة، قليل الكلام كعادته، لكنه كان فناناً في حسن ادارة الكلام القليل، مما جعل صفه غنياً بكلمات من النوع الذي لا ينسى. أذكر مرة انه كان يردد الفكرة الماركسية حول استحالة انبثاق العمل الثوري من الطبقات الموسرة والمستفيدة من الاوضاع القائمة. لم تكن تلك المرة الأولى التي أسمع فيها هذا القول، وكان يؤلمني في كل مرة لاعتقادي بأنني محسوبة على الطبقات الراضية عن الاوضاع في الوقت الذي أتحرّق الى التغيير ويسهدني الغضب مما هو سائد ومستشر. طلبت الكلام، ولما أعطيته سألت أستاذي:"ألا تعتقد ان النساء من جميع الطبقات، يشكلن خامة ثورية؟ فأجابني بكل اقتناع وحماسة: طبعاً. هذه ال"طبعاً"من دون مقدمات ولا شرح نزلت عليّ نزول الماء على الظمآن، ماحية ما كان ينتابني من حيرة حول الموضوع. إنها كلمة لم أنسها، وقد كان الدكتور شرابي دائماً يعبر عما يتوقعه من المرأة العربية من ريادة إصلاحية. كان نصيراً ومشجعاً، سنفتقده كثيراً. ولعلنا نجد الآن في صمته الأخير حافزاً للبحث في اعماله الكثيرة عن البلاغة الموجزة التي تصيب اللب وتطلق الجهد.