آسيا هي أكبر قارات العالم وربما أقدمها ايضاً، تضم أمماً وشعوباً مختلفة الأعراق متباينة الأجناس متعددة الثقافات، عليها نزلت الرسالات السماوية الروحية وظهرت الحضارات القديمة حول أنهارها فهي إلى حد كبير تعتبر القارة الأم"إذ أنها تجمع بين الكوري والسوري وبين المنغولي واليمني. إنها القارة التي ظهرت فيها فلسفات الشرق القديم كما عرفت الديانات الآسيوية جنباً الى جنب مع الديانات الثلاث"الابراهيمية"، إنها بحق متحف الزمان والمكان. ولقد عشت سنوات في الهند حيث تقع شبه القارة في جنوب آسيا وتضم من الملل والنحل والطوائف ما يجسد الشخصية الآسيوية بحق ويجعلها مادة للتأمل والبحث ثم الإعجاب، أقول ذلك كله بمناسبة ما جرى في تلك القارة الواسعة فأحال اجزاء منها الى حطام وحصد مئات الألوف وشرد الملايين بالزلزال الذي ضرب قاع المحيط حتى جرفت المياه مدناً وقرى بل حركت جزراً من مواقعها الثابتة، فأصبحت دموع الثكالى وأنات المشردين وصراخ الأطفال هي المعزوفة الجديدة في ربوع تلك القارة العجوز. إن أحزان آسيا تعطينا دروساً جديدة لشعوب تحاملت عليها الطبيعة وكأن الفقر لا يكفيها فأضافت إليه ما فيها، زلازل وعواصف وفيضانات في وقت تئن فيه القارة الأفريقية تحت وطأة الصراعات العرقية والمجاعات الدورية ومرض نقص المناعة الذي قوض كيان الأسرة الافريقية وضرب السياحة في القارة السمراء وجعل توأم آسيا وهي القارة الأفريقية مسرحاً للمآسي الدائمة والكوارث المستمرة والأحزان التي لا تنقطع، إننا نكتب هذه السطور لكي نعزز تلك المشاعر الإنسانية الكاسحة التي أبرزها زلزال تسونامي فهزت ضمائر الغرب المتقدم وشدت الأنظار عن مأساة العراق ومحنة فلسطين ومشكلة دافور، ولعلي أقدم في هذه المناسبة عدداً من الملاحظات التي تثيرها أحزان الفقراء في اسيا وغيرها لعلها تكون بداية جديدة لفهم مختلف لعالم يتغير: أولاً: لقد آن الأوان لكي تدرك الدول التي تصنع السلاح وتبيعه والأخرى التي تشتريه وتستخدمه أن البلايين التي تنفق سنوياً على التسليح يمكن توجيه جزء منها، ولا أقول كلها، إلى الأفواه الجائعة والعيون الدامعة والقلوب المفجوعة في الدول المنكوبة، ليس ذلك قولاً"طوباويا"لكنه انعكاس لحقيقة يمكن الإمساك بها والتعويل عليها. فالشعوب تحتاج إلى الجرارات والمدارس والمستشفيات قبل حاجتها للبنادق والمدافع والمدرعات. ثانياً: يكفي أن نتأمل المأساة الآسيوية الأخيرة لندرك حجم معاناة الذين لا يملكون في وقت يسرف فيه من يملكون. وهذا الخلل في المجتمع الدولي وغياب التوازن في العلاقات السائدة إنما يعكس بالضرورة حالة الأنانية التي تعاني منها الشعوب وتدفع ثمنها الجماهير لأنها تعدم روح التضامن وتنهي معنى التكافل. ثالثاً: إن منظمات الإغاثة الدولية لا يمكن أن تحقق وحدها الأهداف المطلوبة لأن جهودها موزعة على فقراء العالم من دكا في بنغلاديش الى دارفور في السودان. ولا يمكن أن تغطي جهود تلك المنظمات أركان الدنيا الأربعة، لذلك فإن مواجهة الكوارث الدولية أصبحت تستوجب فكراً جديداً تسيطر عليه روح استباقية تتقدم الحدث ولا تنتظره خصوصاً أن تكنولوجيا العصر قد قدمت إسهامات كبيرة في ذلك، وقد يكون من المؤلم حقاً أن النكبات والكوارث تصيب الفقراء أكثر من غيرهم وتضرب الدول العاجزة قبل الدول القادرة حتى تجتمع على شعوبها كل عناصر الضعف وأبعاد التخلف. رابعاً: إن القارة الآسيوية في شرقها وجنوبها حيث تسيطر البوذية والكونفوشية والهندوكية وغيرها من الديانات القديمة التي تبدو أقرب إلى الثقافات منها الى المعتقدات لا تعرف الصراع بينها وتلتقي عند روح ميتافيزيقية فيها قدر كبير من السمو النفسي والزهد المعيشي والتأمل العميق. وهم عندما يواجهون كارثة أو يتعرضون لمحنة فإن أصواتهم تكون غير عالية وتحملهم للآلام يستحق الاحترام، إنها شعوب عرفت الحياة الصعبة من البداية ولم تدللها الطبيعة مثلما بشعوب غيرها ولو تأملنا طقوسهم الدينية لوجدنا فيها محاولات دائمة لتطهير النفس وجلد الذات وتعذيب الجسد من أجل تقوية الروح. خامساً: إن ما جرى والذي يعتبر مأساة بجميع المقاييس يجب أن يدفع بالمجتمع بالدولي الى التفكير في إنشاء هيئة دولية مركزية تختص بالمآسي الطارئة والكوارث المفاجئة وتحوي في إطارها تمثيلاً لكافة المنظمات المعنية الأخرى، لأن الكوارث والنكبات متعددة الأبعاد متداخلة الآثار وهي تحتاج الى تضافر الجهود المتصلة بقطاعات الصحة والبيئة وأجهزة الإنقاذ الضخمة والمتقدمة. إننا لا يمكن ان نقف أمام الكوارث الكبرى عاجزين، بل لا بد أن يقترن تطور الإنسانية بتطور ضميرها من ناحية وتطور إمكاناتها من ناحية ثانية لأننا لا يمكن أن نواجه مآسي القرن الواحد والعشرين بأساليب القرن التاسع عشر وأدواته أو حتى ضميره. إن أحزان آسيا لا تبدو بعيدة عن واقعنا العربي، لا لأننا فقط جزء منها - فقد طاولت حدود المأساة شواطئ اليمن والصومال، ولكن أيضاً لأننا نقف على البوابة الغربية لتلك القارة العظيمة التي تعتبر أكبر نموذج للتعددية في تاريخ الإنسانية. وكنت أظنها فرصة مواتية للعرب ليثبتوا للعالم أنهم لا يركزون فقط على مشاكلهم ولا يشغلون الدنيا بأزماتهم، لكنهم ايضاً شركاء حقيقيون في كل ما يجري في العالم حولهم. وهذا المنطق يذكرني بما كانت تعانيه منظمة الوحدة الافريقية - قبل أن يقوم الاتحاد الافريقي - من اتهامات يوجهها الأفارقة جنوب الصحراء ضد الأفارقة العرب في شمال القارة، خصوصاً عندما يتحدثون عن تصدير المشاكل إليهم وتوظيف المنظمة لخدمة أغراضهم. فقد كان الصراع العربي - الاسرائيلي بنداً دائماً وضيفاً ثقيلاً على افريقيا السوداء مثلما كانت مشكلة الصحراء الغربية ايضاً مصدراً للخلاف داخل أروقة مؤتمرات القمة الافريقية في العاصمة الاثيوبية حتى أن رئيس زائير الراحل موبوتو سيسيكو طالب في مرحلة معينة بإقامة منظمة مستقلة للوحدة الافريقية جنوب الصحراء حتى يتخلص الأفارقة من مشاكل الشمال ويصبحوا قادرين على التركيز على مشاكل الدول جنوب الصحراء، وتلك الروح الأفريقية تعكس شعوراً دولياً عاماً يتحدث عن أنانية العرب وإقحامهم لمشاكلهم علي الدنيا كلها حيث أن قضاياهم - مع التسليم بعدالتها - تحتل الصدارة في أجندة المؤتمرات الدولية والمحافل العالمية والاجتماعات الدورية. فإذا تعرض العالم لكارثة مثل ذلك الزلزال الذي ضرب أعماق المحيط وكبد دولاً في شرق وجنوب آسيا خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات كان يمكن أن يعطي ذلك الدول العربية - خصوصاً الثرية منها - فرصة لإثبات قدر من التضامن الفعلي ورد الجميل لكثير من الدول التي تعاطفت مع قضايانا واهتمت بمشاكلنا، وحتى نسكت الدعاوى التي كانت تتردد أحياناً متهمة العرب بالصياح الدائم والذاتية المفرطة في التعامل مع المشاكل الدولية والاقليمية. فالمجتمع الدولي عندما يشعر بمشاركة كل أطرافه يعيد النظر في كثير من مواقفه، فقصة إنقاذ شاب فلسطيني لزوجين اسرائيليين - مثلاً - كانت خبراً يتصدر أخبار الوكالات والصحف والفضائيات. إنني على قناعة من أن اندماجنا أكثر في مشاكل المجتمع الدولي وأزمات شعوبه هو أحد مظاهر التحول في العقل العربي. ويجب ألا نفرق في ذلك بين أتباع دين وآخر أو المنتمين لثقافات بعينها أو حضارات بذاتها، فالبشرية سواء أمام المحن. وقد يقول قائل ولماذا كل هذا التعاطف اذا كانت المجازر يومية في بغداد وإرهاب الدولة مستمراً في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، لماذا نندفع نحن لنجدة من لا يفعلون شيئاً لنا ولا يقدمون دعماً لقضيتنا؟ هل دماؤهم أغلى من دمائنا؟ وهل أرواحنا أرخص من أرواحهم؟ إن الاجابة عن مثل هذا السؤال لا تحتاج الى جهد كبير. فنحن نقتحم عصر الشراكة لا بمعانيها السياسية والاقتصادية والثقافية فحسب، ولكن ايضاً بمنطق الروح المشتركة والدوافع الانسانية الواحدة والقواسم الاخلاقية التي تدفع الجميع نحو مجتمع أفضل وعصر أرقى وحياة جديدة، وأريد أن أذكر هنا أن التشابك الدولي والتداخل العصري يجعلان من الكوارث الإنسانية هماً عاماً وألماً شاملاً. فقد ارتقى ضمير الإنسانية وازدهرت معالم الحس الرفيع أمام المواقف الصعبة والظروف المعقدة، ونحن مطالبون بإثبات الوجود وتأكيد المواقف ودعم الأمم ومساندة الشعوب حتى لا تنتشر أحزان آسيا وتصبح اكتئاباً متوطناً يصعب البراء منه. إنها فرصة جديدة لإثبات حسن النية وتأكيد وحدة الجنس البشري في ظروف شديدة القسوة بالغة الشدة حزينة الأثر. تعليق على مقال سابق } تلقيت اتصالاً هاتفياً من سفير المغرب في القاهرة الصديق محمد فرج الدوكالي يعتب فيه علي باسم بلاده لما جاء في ثنايا مقالنا السابق بجريدة"الحياة"بتاريخ 14 كانون الاول ديسمبر 2004 بعنوان"العالم العربي... قيادات جديدة وأفكار قديمة"حول الموقف المغربي من مشكلة الصحراء الغربية، وكذلك أهمية تفعيل دور العاهل المغربي الملك محمد السادس للجنة القدس التي يترأسها، كما أبلغني العتاب نفسه الصديق الاستاذ محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب، وأنا أؤكد بهذه المناسبة أنه لم يكن من أهداف المقال المشار إليه المساس بالموقف المغربي تجاه قضية الصحراء الغربية على الاطلاق، كما أننا نشعر الآن بالرضا والتقدير لدعوة العاهل المغربي - التي تزامنت مع نشر مقالنا السابق - لتفعيل عمل"لجنة القدس"وصدور بيان عنها يتحدث عن إعمار"زهرة المدائن"مدركين في الوقت ذاته أن الظروف الراهنة في الأرض الفلسطينيةالمحتلة هي التي تعوق نشاط"لجنة القدس"وتؤثر في قراراتها. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.