افتتح الموسم التشكيلي في العاصمة الفرنسية بمعرض استعادي للفنان التجريدي سيرج بولياكوف. جمع "متحف مايول" أعماله من آفاق متباعدة. وابتدأت حشود العرض منذ أيام قريبة، وسيستمر حتى السابع من تشرين الثاني نوفمبر المقبل. هو من مواليد موسكو 1900، ولكنه يعتبر فرنسياً لأنه هاجر الى باريس مبكراً، بعد عام من الثورة البلشفية اي 1918، وفي السنة نفسها التي رحل فيها توأمه الفني واسيلي كاندينسكي الى ألمانيا. وهاجر في الفترة نفسها الى نيويورك الموسيقي الروسي الاكبر ايغور سترافنسكي. ظل بولياكوف في باريس ممثلاً أحد الأعمدة الاساسية في "حركة التجريد" الى جانب بازين وفوترييه وميساجيه واستيف وغيرهم، وذلك حتى توفي فيها عام 1969. إذا تجاوزنا فترة التشرد الأولى التي كان يعيش فيها بوهيمياً يعزف على الغيتار في الشوارع وأرصفة المترو، وجدنا انه ابتدأ التصوير بطريقة واقعية لا تخلو غالبيتها من الطابع التسويقي يعانق المعرض نماذج منها، لا يعوّل على تصويره الا ابتداء من معرضه الاول عام 1947. شارك منذ ذلك الحين مع الكوكبة الباريسية الغنائية المذكورة في مجابهة طغيان التجريد الهندسي والبنائي الذي سيطر منذ الثلاثينات. من المثير للانتباه ان الصراع انتقل الى موسكو، هو ما يفسّر صعود الاتجاهات التجريدية الروحانية فيها ابتداء من "شعاعية" لاريونوف وانتهاء ب"تصعيدية" مالفتش. يُعتبر معرض اليوم بمثابة إعادة الاعتبار لأهمية ريادته التي فاتت النقاد بما فيهم أبرز مؤرخ لهم وهو سوفور، هذا هو شأن النقد الذي تبدو دوماً تقويماته متأخرة عن اعتراف الفنانين. فهم الذين أدركوا في وقت مبكر أهمية تأثيراته في التيارات اللاحقة بخاصة "المنمالية" الاختصارية، وبصماته العميقة على معاصريه من الفنانين وبالذات يبدو تمفصله العضوي اصيلاً مع تاريخ التجريد، منطلقاً من رحم سطوح هنري ماتيس التي تقتصر على المساحات ذات البعدين من دون حجم وعلى صيغة النوطة اللونية المشرقية الرهيفة. يبدو بولياكوف بعيداً من التنظير الذي أشاع أسماء كاندينسكي مدرسة الباوهاوس ومالفيتش. تستمر تقنيته بالألوان الزيتية وبودرة الصباغات بطريقة كلاسيكية لا تختلف عن مختبر المعلمين القدامى، ذلك ان منهجه في الأساس يقوم على اختزال الذاكرة المتحفية لفن الأيقونة الارثوذكسي البيزنطي والفريسك المصري المدفني الشمعي. طوبوغرافيا استقى من المصدر الاول التنغيم اللوني الروحي نتيجة تراكم التعديلات والطبقات والسطوح المتشققة، واستعار من الثاني سطوح الفرعونية الصريحة والمختزلة وحك بودرة الصباغة بالسكين على البياض الكلسي. أما تكويناته فتبدو أشبه بالمقاطع المجهرية لهذه الفنون، مختزلة الى درجة "الجزء بارادة الكل" وهو الجانب "المنمالي" فيها. تتميز لوحته بخرائط "طوبوغرافية" مؤسلبة، بسيطة ومركبة في آن. تبدو سطوحه مثل تمفصل "البوزل": مجموعة شظايا مروحية تدور حول بؤرة حلزونية. اما التمييز العاطفي في كل لوحة فيرتبط برهافة المقام اللوني الموسيقي، وصيرورة التناغم في نحب السطوح وأنسجتها اللمسية المتغايرة. سطوح لونية صائتة ترفع الحدود بين الحواس: السمع والبصر واللمس الحسّي. يمثل بالتالي البرزخ المتوسط بين الطرفين المتصارعين في التجريد: الهندسي والفنائي. لا يمكن ان يتعرف القارئ الى قيمته الا اذا راجع الأصول بقياسها الفلكي ورهافة الأداء وبقايا التعديلات التي تقوده كل مرة الى محطة جديدة من الزهد والتقشف الشكلي واللوني. متحالفاً مع أقطاب التجريد الأوائل، على غرار تقسيمات الدائرة اللونية لدى روبير دولوني وشراذم السطوح لدى فروندلايش، ووصل تأثيره الى التجريد الأميركي الضوئي في الستينات على مثال نيومان. يمثّل تراث بولياكوف التجريدي خصائص الثقافة الروحية الروسية وتفلفلها في الحداثة الغربية، ابتداء من وصول دياغيليف الى باريس حاملاً معه أول إشارات رقص الباليه وموسيقى تشايكوفسكي، وانتهاء من تأثيرات شاغال الذي صمم رسوم سقف الأوبيرا فيها، مروراً بتعاليم كاندينسكي وكتبه و"الأورغ الملوّن" الذي بشّر فيه برفع الحدود بين الموسيقى والتصوير. تتناقض خصوبة هذا الحمل الإبداعي مع "بيروقراطية" "الواقعية الاشتراكية" التي دمّرت خصائص هذه الثقافة لمصلحة التبشير والعقائدية السياسية.