أصبح الإصلاح السياسي هو حديث الناس في مصر والقضية التي تتصدر جدول أعمال الكافة، وبخاصة أحزاب المعارضة والأحزاب والتيارات"المحجوبة عن الشرعية"والمستقلون وقوى المجتمع المدني ككل. ومن الصعب حصر الاجتماعات والحوارات والندوات والمؤتمرات كافة التي عقدت هذا العام وحده حول القضية، والتي أتيح لي أن أشارك في عدد كبير منها كان آخرها"منتدى الأهرام لتفعيل برنامج الإصلاح المصري"الذي عقد في فندق فلسطين في الاسكندرية خلال يومي 2 و 3 من الشهر الجاري ونظمه"معهد الأهرام الإقليمي للصحافة"بمساندة من"مركز المشروعات الدولية الخاصة". هذا الزخم هو الذي دفع الحزب الحاكم في مصر لعقد مؤتمره لهذا العام تحت شعار"الفكر الجديد وأولويات الإصلاح". ومن المتوقع أن تسيطر هذه القضية على مسيرة الحياة السياسية في مصر خلال المرحلة المقبلة وأن تزداد تفاعلاتها حدة كلما اقتربنا من موعد نهاية الولاية الحالية للرئيس حسني مبارك في تشرين الاول اكتوبر 2005. ولكي تتضح أمامنا طبيعة وحجم الهوة التي تفصل بين الإصلاح كما يراه المجتمع المصري وينشده والإصلاح كما يراه الحزب الحاكم وكما ستعكسه قرارات مؤتمره الذي أفتتح أمس الثلثاء، قد يكون من المفيد أن ألخص هنا قراءتي الخاصة لمجمل ما دار في منتدى الإسكندرية المشار إليه عاليه والذي شارك فيه نخبة يمكن اعتبارها ممثلة ألوان الطيف السياسي كافة في مصر. وكنت طرحت هذه القراءة، بناء على طلب المنظمين وبتفصيل أكبر، في الجلسة الختامية لهذا المنتدى, والذي لم تقتصر مداولاته في الواقع على موضوع"تفعيل برنامج الإصلاح المصري". كما يشير عنوانه، وإنما اتسعت لتشمل قضية الإصلاح بجميع جوانبه وتحاول الإجابة على أسئلته المحورية كافة: لماذا الإصلاح؟ وماذا نصلح؟ ومن يقوم بالإصلاح المطلوب؟ وكيف؟ 1- في سؤال: لماذا؟ ميّز المتحاورون بين الأسباب الداخلية والأسباب الخارجية للإصلاح, لكنهم لم يتوقفوا كثيرا عند أسبابه الخارجية، وهو ما عكس وجود توافق ضمني على ان مطلب الإصلاح هو مطلب داخلي في المقام الأول، بصرف النظر عن موقف الخارج منه، وأن تزايد التحديات الخارجية يعزز من ضرورة وأهمية الإصرار على الإصلاح، وليس العكس، وذلك من منطلق أن الإصلاح، وفقا لمفهوم الداخل له، هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة مثل هذه التحديات بقدر أكبر من الفاعلية. أما الأسباب الداخلية التي رصدها المتحاورون فهي عديدة، ويمكن تصنيفها وطرحها على النحو الآتي: - النظام السياسي الحالي هو نظام فردي وليس مؤسسي، وحكومته تدير ولا تحكم وتتشكل من موظفين فنيين معينين، وليس من سياسيين منتخبين، ولا توجد معايير واضحة في اختيار القيادات أو في توزيع المسئوليات والصلاحيات على المستويات كافة، مما أدى إلى سيادة منطق الشللية وتدني معايير الاختيار. - وهو نظام يتسم بعدم الكفاءة، والتي يشهد عليها إنجازه المحدود في المجالات كافة وعلى الأصعدة والمستويات كافة. ففي مجال السياسة الخارجية والأمن: تآكل دور مصر العالمي والإقليمي وتزايدت حول مصر المخاطر والتحديات من كل جانب وأصبحت محاصرة ومهددة. وفي المجال الاقتصادي والإنتاجي: تعم حالة من الركود المزمن مصحوبة بتضخم في الأسعار ونسبة بطالة عالية ومتصاعدة واستثمارات هابطة. وفي مجال الخدمات: تبدو حالة التعليم و الرعاية الصحية والاجتماعية متدهورة وعلى حافة الانهيار. - وهو نظام ينطوي على قدر كبير من الفساد وعدم الشفافية، ويخلو من جهاز كفء لجمع وتحليل البيانات والمعلومات, وما زال يخلط بين مفهوم التعبئة ومفهوم الإحصاء, ومن ثم لا تتمتع بياناته بقدر كبير من الصداقية. يضاف إلى ذلك أنه نظام لا يخضع لأي قدر معقول من المساءلة السياسية أو القضائية بسبب ضعف المشاركة السياسية, وتزوير الانتخابات. - وأخيرا هو نظام يتسم بالمركزية الشديدة, ولا يساعد على اكتشاف وتنمية المهارات الإبداعية, ولديه ميل غريزي لتكريس وإعادة إنتاج ثقافة التخلف والخوف والانتهازية. 2- في سؤال: ماذا؟ كان واضحاً في ذهن الجميع أن الإصلاح يستهدف, في نهاية المطاف، صوغ نظام سياسي جديد يقوم على المؤسسية والشفافية، ويخضع للمساءلة والرقابة، ويتسم بالكفاءة الإدارية والنزاهة. نظام قادر على المواءمة بين سمات المركزية المطلوبة للمحافظة على وحدة الوطن وأمن المواطن ولا مركزية تفعل المشاركة الشعبية وتطلق الطاقات الإبداعية للمجتمع. ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يتفق الجميع على أن للإصلاح أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وثفافية متكاملة، وبالتالي فالإصلاح المطلوب يجب أن يكون شاملا وغير قابل للتجزئة. صحيح أن هناك أولويات يتعين الاتفاق عليها، لأنه لا يمكن السير بالعملية الإصلاحية بالتوازي وبشكل متزامن وبسرعات متساوية على الأصعدة والأبعاد كافة، غير أن وجود سلم للأولويات لا يعني أن قضية الإصلاح هي عملية قابلة للتجزئة أو أن معالجتها لا تتم إلا وفق تسلسل زمني وهرمي، فمن المطلوب توافر ثلاث حلقات متزامنة ومتصلة لا يستغني اي منها عن الآخر: 1- رؤية شامله للإصلاح تحدد فلسفته وغاياته وأهدافه النهائية وتؤكد في الوقت نفسه على الثوابت الوطنية والقومية. 2- سياسات للإصلاح تعكس هذه الرؤية وتغطي كل المجالات والأبعاد التي تشملها العملية الإصلاحية. 3- برامج تحدد الأهداف المرحلية وأولويات العمل والجدول الزمني اللازم للتنفيذ، وتختار من الأليات والأدوات والوسائل المتاحة ما يتناسب مع ظروف ومعطيات كل مرحلة. ولأنه لم يكن بوسع المتحاورين، ولا كان مطلوبا منهم، صياغة رؤية شاملة ونهائية أو وضع سياسات وبرامج تفصيلية للإصلاح المطلوب، فقد اكتفوا بتوضيح المعايير التي يجب أن تحكم عملية ترتيب الأولويات. وبدا لي أن هناك ما يشبه الاتفاق العام على وجوب النظر إلى هذه المعايير في إطار وظيفي وعملي، أي ترتيبها على النحو الذي يسهل من عملية الإصلاح ولا يعقدها، ويقرب من تحقيق الأهداف ولا يبعدها، ويتعامل مع الواقع في حدود الممكن ولكن من دون التخلي عن الطموح. 3- في سؤال من؟ بدا لي وجود انقسام عميق بين المتحاورين حول مسؤولية ما نحن فيه الآن وهل تقع على عاتق الحكومة والحزب الوطني وحدهما، أم أنها مسؤولية مشتركة تتحملها، وإن بدرجات مختلفة, كل القوى السياسية والاجتماعية. وأشار كثيرون إلى أن الممارسة الديموقراطية داخل معظم أحزاب المعارضة لا تختلف كثيرا عنها داخل الحزب الحاكم، وإلى أن شرائح عديدة من المثقفين لم تؤد واجبها على النحو الأكمل وتتحمل بالتالي جانباً من مسؤولية ما نحن فيه، وإلى أن قوى اجتماعية وسياسية مهمة تقف عقبة أمام التغيير وربما تريد التغيير نحو الأسوأ والأشد تخلفاً وظلاماً. غير أنه كان هناك اتجاه قوي في الوقت نفسه يرى ضرورة أن لا ننشغل كثيراً بتوزيع التهم والمسؤوليات والتركيز على تحديد القوى صاحبة المصلحة في الخروج من المأزق الراهن. هنا بدت لي محاور انقسام مهمة وعميقة بين من يمكن تسميتهم ب"الاستبعاديين"ومن يمكن تسميتهم ب"التجميعيين". فبعض"الاستبعاديين"يرون أن الحزب الوطني هو المستفيد الأول من استمرار الوضع الراهن ولا يمكن التعويل عليه في قيادة الإصلاح أو حتى المشاركة في جهوده ويتعين, من ثم, استبعاده من مسيرة الحركة الإصلاحية، لأن الإصلاج ينتزع ولا يمنح، بينما يرى بعضهم الآخر أن الجماعات الإسلامية هي الأولى بالاستبعاد لأن الإصلاح بالنسبة لها ليس سوى وسيلة للوثوب إلى السلطة لتصفية الخصوم والانفراد بالحكم. أما"التجميعيون"فيرون أن الكل في قارب واحد وأنهم معرضون جميعا للغرق مالم يسارع كل من يستطيع تقديم يد العون لسحب السفينة الغارقة إلى بر الأمان. وتأسيساً على هذه المقولة يرى كثيرون، وأنا واحد منهم، أنه آن الأوان لإبعاد قضية الإصلاح عن الخلافات الأيديولوجية، لأن المطلوب ليس صياغة"بربامح سياسي موحد"أو تشكيل حكومة ائتلافية أو حكومة إنقاذ، وإنما الاتفاق على كيفية إدارة اللعبة السياسية بطريقة تمكن الجميع من المشاركة والاحتكام في نهاية المطاف إلى صناديق الاقتراع. ومن هذا المنطلق يصبح كل من يوافق على هذه القواعد ويلتزم بها مؤهلاً للمشاركة في حركة المطالبة بالإصلاح، أيا كان موقعه على الخريطة السياسية والفكرية المصرية. 4- في سؤال: كيف؟ ثارت خلافات ذات طابع منهجي بين تيارين، الأول: يرى أن الإصلاح عملية تبنى بالتدريج من أسفل إلى أعلى، أي تبدأ بالفرد والأسرة وتنتهي بقمة السلطة، وبالثقافة والتربية والتعليم وتنتهي بالسياسة. والثاني، يرى أن الإصلاح عملية لا تبنى، في ظروفنا الراهنة، إلا من أعلى وتبدأ بالسياسة وتنتهي بالثقافة والفكر والتربية على مستوى الأسرة والفرد. وداخل هذا التيار الثاني الذي أكد على أن الإصلاح السياسي هو المدخل الرئيسي لأي إصلاح في أي مجال آخر، أمكن التمييز بين منهجين فرعيين: منهج الحد الأقصى، والذي يرى ضرورة البدء بتغيير الدستور وخصوصاً ما يتعين بكيفية اختيار رئيس الدولة، ومنهج الحد الأدنى، الذي يرى أنه يمكن البدء بانتخابات محلية نزيهة والتدرج وصولاً إلى تحقيق النزاهة في انتخابات مجلس الشعب البرلمان ثم انخاب رئيس الدولة من بين أكثر من مرشح. غير أن هذه الخلافات لم تتمكن من طمس معالم إجماع حقيقي حول ضرورة البدء بإلغاء حالة الطوارئ فوراً وتعديل قوانين الأحزاب والانتخابات والجمعيات والنقابات المهنية والشروع في تشكيل لجنة حكماء لتعديل دستور أقر الجميع، أنه يعد الآن واحدا من عجائب الدنيا. وبهذا الإجماع أصبح الحلال في موضوع الإصلاح بيّناً والحرام فيه بيّناً أيضاً. المشكلة أن الإصلاح المطلوب ليس هو ما يريده الحزب الحاكم، ولا هو بالأمر الذي يستطيع المجتمع المدني فرضه. ولذلك فكلما كثر الحديث عن الإصلاح السياسي في مصر ازداد مأزق الإصلاح وضوحاً. وتلك حقيقة لا تدركها النخبة الحاكمة في مصر. وهنا مكمن الخطر! * كاتب وأكاديمي مصري.