في غمار الأمواج البشرية وزحمة المسافرين في مطار سوكارنو حتا في جاكرتا، وقفت "سرياتي"، الشابة الفتية، غير آبهة بمزيج الأفواج البشرية المتلاطمة من حولها، ولا مبالية بأصوات الباعة والمفتشين والحمالين التي ترتفع من حولها، مستغلة اللحظات الأخيرة لتحتضن ابنتها وتعانق زوجها وتبكي بحرقة على وفاة والديها وربما على ظروفها المعيشية القاهرة التي تدفعها إلى الرحيل. "الرحيل سيكون إلى أرض بعيدة، غريبة الملامح، وفوق هذا كله إلى مصير مجهول"، قطع صوت "منظم الرحلة" على سرياتي حبل الأفكار التي كانت تصطخب في ذهنها، داعياً إياها إلى أن تتحرك وتنضم إلى بقية المجموعة التي ستسافر معها على متن الطائرة المتجهة إلى احدى دول العربية. ومن دون ممانعة استجابت "سرياتي"، التي لا يخال المرء أنها من الممكن أن تكون قد تجاوزت سن ال18 وأن القامة الطويلة والخمار الذي يغطي جزءاً غير يسير من ملامح وجهها، ليسا سوى ستارة خادعة تخفي تحتها طفلة بريئة. ولحقت بمديرها الذي "ساقها" إلى حيث الأخريات اللواتي تتشابه تقاطيعهن وسيرهن الذاتية إلى حد كبير. التفريق بين واحدة و أخرى أمر ليس بيسير. أنهى الموظف الموكل من أحد مكاتب جاكرتا التي تتعاون مع مكاتب استقدام "الخادمات" في عدد من الدول العربية، الاجراءات الخاصة ب"تسفير" هذه الدفعة. وأعاد لكل واحدة منهن جواز سفرها مع بضع كلمات تشجيعية. انصرف بعدها تاركاً إياهن أمام بوابة المغادرة استعداداً لاستقلال الطائرة. الطائرة مملوءة أيضاً بالضجيج، مزيج غريب من الأصوات البشرية الباكية، الضاحكة، بين متأسية على الفراق ومتطلعة إلى اللقاء. شاءت صدفة - مفتعلة إلى حد كبير - بأن أحظى بمقعد مجاور لسرياتي. سرياتي روت ل"الحياة" تفاصيل كثيرة عن حياتها وعن بيئتها التي تتحدر منها وعن القدر الذي كتب لها ولآلاف غيرها أن يتركن عائلاتهن ويذهبن لخدمة عائلات لا تمت لهن لا من قريب ولا من بعيد بأية صلة. إذن، مهنة سرياتي كما نطلق عليها بالعامية "شغالة"، وعمرها الحقيقي يصغر السن المدون في جواز سفرها بعام على الأقل. مؤهلاتها التي دفعتها للانخراط في حقل الأعمال المنزلية هي سنوات من الخبرة في شظف العيش وقدرة على الجلد وتحمل المصاعب والانصياع ورغبة جامحة في إعالة عائلتها البعيدة عنها. هذه الوظيفة - إن جاز التعبير - موجودة منذ القدم إلا انها بدأت تتخذ في عصرنا الحالي منحى جديداً، فمع ازدياد "الطلب" مع ارتفاع حاجة بيوت كثيرة في بلادنا العربية للخادمات، ازداد في شكل تلقائي "العرض" وباتت مكاتب استقدام الأيدي العاملة المنزلية كما تطلق على نفسها تتنافس في ما بينها لتوفير هذه اليد عبر تقديم عروض متميزة كتكاليف استقدام أقل وسرعة في إيصال "الطلبية" التي تتوافق مواصفتها ورغبة ربات المنازل: شابة نشيطة وهادئة في الوقت ذاته وقليلة الاعتراض! استقدام الأيدي العاملة بات في الوقت الراهن يشبه عملية الاستيراد والتصدير. وعلى رغم عدم وجود احصائيات رسمية لعدد الفتيات الأندونيسيات العاملات في هذا الحقل إلا أن باء ألان، مدير أحد مكاتب الاستقدام في جاكرتا، يقدر عددهن بعشرة ملايين خادمة يعمل ما يتجاوز ال80 في المئة منهن في دول الخليج العربي، حيث يزداد الطلب على العمالة الأندونيسية المسلمة، كما يوضح آلان ل"الحياة". وأشار الى أن أعمارهن الرسمية تراوح بين 25 و35 عاماً. حين يستقر اختيار صاحبة المنزل على واحدة منهن يطمئن العاملون في مكاتب الاستقدام، فإحدى الخدمات الإضافية التي يقدمها المكتب هي إمكان ردُ أو تبديل الخادمة. وتؤكد ذلك ريم، إحدى ربات البيوت التي تعمل لديها خادمة من أندونيسيا. ويبدو أن الأسلوب "الخاص" في التعامل مع هذه الفئة التي لبست ثوب العناء منذ نعومة أظفارها ودفعتها الحاجة الماسة وضيق ذات اليد إلى هجر بلادها من أجل الكسب الحلال يبدأ منذ اللحظة الأولى لعبور الفتيات الحاجز الأمني في مطار جاكرتا ويتواصل خلال الرحلة الجوية التي تستغرق ما يزيد عن ثماني ساعات. مسحت سرياتي بمجرد وصولها دمعة الفراق ورسمت عوضاً عنها ابتسامة على شفتيها تنم عن الرضا بالحياة التي كتبت لها، وودعت زميلاتها التي تجمع بينهن الكثير من القواسم المشتركة، مسلّمةً بواقع جديد.