إن الفكرة الوحيدة الجديرة بالتوقف عندها، في كتاب صموئيل هنتينغتون الشهير "صراع الحضارات"، هي الفكرة التي تقول بأن المسلمين، بدلاً من القيام بتحديث الإسلام، يريدون أسلمة الحداثة. لا شك في أن المسلمين يراودهم الحنين الى المؤسسة الاسلامية، ويعملون على مجابهة الغرب عن طريق احياء مبادئ الإسلام وجعلها مبادئ حداثة. فالاسلام، على ما يبدو، وكما لاحظ الفيلسوف الألماني هيغل، يشكل، في نظر المسلمين، الاطار الذي يستقر فيه نهائياً توازن أصالة الروح الشرقية، ويحقق أقصى ما يمكن أن يدركه العقل الشرقي. هذا التوازن، الذي ينطوي على نقاوة مجردة للروح، قد ولَّد تدريجاً، ردباً تاريخياً ثابتاً، أي طريقاً مسدوداً. فعلى صعيد الشمولية المجردة، لا يستطيع أي نظام مؤسساتي أن يستمر طويلاً. وفي المقابل فإن أي انهيار لا يمكن أن يكون نهائياً. وذلك من طريق اللجوء الى ممارسة التعويض: أي اعادة التوازن الذي ما انفك يحدث في استمرار لمصلحة التراث. ان سياسة اعادة التوازن تشكل أهم عنصر من عناصر الثقافة الاسلامية، التي تلجأ الى نتاج ما زال يتضخم، وهو نتاج المرجعيات التقليدية. هذه الثقافة تلجأ اليه كلما واجهتها معطيات جديدة. فالمسألة المطروحة في الأمس، كما اليوم، لا تتناول رفض التجديد أو تجنبه، بل جعله ممكناً باللجوء الى ممارسة التعويض. الى جانب هذا الردب التاريخي أو هذا الطريق المسدود، هناك التباين السياسي مع الغرب، فبينما اختلطت الحداثة في أوروبا مع السياق البطيء للتحرر من النظام الامبراطوري، تحدد السياسي، في العالم الاسلامي، تدريجاً، من طريق وجوب انشاء امبراطورية، ترتبط بتعريف الايمان الجديد وبشروط نشره عالمياً: على الناس أن يطيعوا، وعلى الخلفاء والأمراء أن يحترموا شريعة الله، تحت اشراف العلماء. لقد انبنى النظام السياسي في الاسلام، على قواعد مختلفة بل معاكسة للقواعد التي انبنى عليها النظام السياسي في أوروبا. ان الخلل الذي أصاب توازن الحاضرة الاسلامية، منذ قرون، ولا يزال، يتزامن مع وجود ثلاث نقائض مزيفة أدت الى تفاقم هذا الخلل. هذه النقائض هي: مسيحية - اسلام، آسيا - أوروبا، حضارة ، بربرية. بالنسبة الى النقيضة الأولى، ألم يلاحظ مكسيم رودنسون أن موقف العالم المسيحي تجاه العالم الاسلامي ربما هو بناء سياسي - ايديولوجي، شبيه بموقف العالم الرأسمالي الغربي تجاه العالم الشيوعي؟ فعالم الاسلام هو قبل كل شيء بناء سياسي - ايديولوجي معاد، وهو أيضاً حضارة مختلفة وعالم اقتصادي مجهول. وجاءت احداث القرنين المنصرمين وما تخللها من انتداب واستعمار أوروبي، اضافة الى الخيارات السياسية والاقتصادية التي انتهجتها الحكومات العربية - الاسلامية الوطنية، لتزيد التباعد القائم ما بين أوروبا والغرب عموماً من جهة، وبين العرب والمسلمين من جهة ثانية. اما النقيضة الثانية أي أوروبا - آسيا، فنحن نكتشف اليوم، وخصوصاً بعد التطورات التي حصلت في البلقان، خلال العقدين المنصرمين، كم كانت عبثية تلك الميثولوجيا الغريبة، التي ومنذ القرن التاسع عشر، تجتاح مخيلة المؤرخين البلقان وكذلك مخيلة المؤرخين العرب، خلال القرن العشرين. تلك الميثولوجيا التي، ومن أجل اثبات القومية الحصرية لكل شعب، شوّهت تماماً تاريخ الامبراطورية العثمانية، المتعددة القومية والديانات، والممتدة في أجزاء عدة من آسيا وأوروبا وأفريقيا. ان تقسيم أراضي الامبراطورية العثمانية الى منطقتين جغرافيتين: أوروبا مسيحية مقابل آسيا مسلمة، قد ولّد نتائج سياسية وفلسفية عميقة وكوارثية، فلم يعد للمسلم وجود شرعي كامل في أوروبا بصفته مسلماً وآسيوياً. وكذلك لم يعد المسيحي يملك وجوداً شرعياً كاملاً في آسياً بصفته مسيحياً وأوروبياً. وما مشكلات الأقليات الدينية - الاثنية - المذهبية المتفاقمة والتي تهدد مجتمعاتنا الاسلامية، إلا نتيجة لتطور هذه النقيضة. ونصل الى النقيضة الثالثة والخطيرة ونعني بها نقيضة الحضارة - البربرية. فمنذ القرن التاسع عشر، أصبحت فكرة وجود حضارات متعددة ومختلفة، تنمو كل واحدة منها وتتطور في منطقة محدودة، مقبولة من الجميع، ومصحوبة بنظريات فلسفية متأثرة بأجواء المطالبات القومية في أوروبا نفسها. فلكل حضارة جوهرها الخاص بها. ان البحث عن هذا الجوهر دفع الباحثين الى دراسة العصور الكلاسيكية لكل حضارة، حيث من المفروض أن تظهر الخصائص الأكثر تعبيراً عن جوهر كل حضارة. ويرتكز هذا التوجه على اعتبار النطاق الديني النواة الأساسية لجوهر كل حضارة. كما ويرتكز هذا التوجه ايضاً على اللغة، حيث لكل لغة دورها المركزي. وكذلك تلعب الأعراق دوراً مهماً في بلورة جوهر كل حضارة. هذا التوجه سرعان ما أدى الى ظهور مركزة أوروبية مؤدلجة تعتبر ان الشكل الشمولي الكوني الوحيد الممكن هو المثال الأوروبي بكل جوانبه. ولكن من جهة يتم التأكيد عى ضرورة تعميم هذه القيم، ومن جهة ثانية يتم التأكيد على استحالة تحقيق ذلك لدى الشعوب الغير أوروبية نتيجة لخصوصية هذه المجتمعات. فيتم التخلي عن ضرورة نشر وتعميم هذه القيم الشمولية لصالح استمرار ثقافات محلية. فتتحول البلدان الشرقية الى شهود متخلفة لماض سحيق مجيد. وتستمر تلك الثقافات من خلال العيش في امجاد ذلك الماضي، على رغم ان الاحتلال الأوروبي أدى، في كل مكان في العالم، الى تدمير البنى السياسية لأهالي البلاد الأصليين وإبدالها ببنى جديدة ذات أشكال أوروبية. وقد اعتقدت الدول الأوروبية آنذاك ان باستطاعتها ان تغير آسيا الاسلامية في صميم أساسيات وجودها السياسي، واستحدثت نظام دول مصطنعة في الشرق الأوسط مما جعل منه بلداناً لم تصبح أمماً حتى يومنا هذا. وأكثر من ذلك، فقد وضعت ثقتها في أنظمة متسلطة على شعوبها. ومنذ البداية لم توفر اي جهد للتصدي لصعود التيار القومي الوحدوي. وهي اليوم تجني الثمار التي ساهمت في انضاجها ووجدت نفسها في مواجهة التيارات الاسلامية الاصولية التي تهدد استقرار المجتمعات الاسلامية نفسها قبل ان تهدد المجتمعات الأخرى. إننا نعتقد ان الحل في مواجهة تنامي التيارات الاسلامية الاصولية يكمن في تبني فكرة تحديث الاسلام وليس أسلمة الحداثة. فقد قدّم الدين الاسلامي نموذجاً انسانياً واقعياً، قادراً على التحقق في كل لحظة. والسنّة الشريفة هي التعيين اللحظوي للنص القرآني في زمن الرسول. انها في أدق تعريفاتها، الطريقة، الاتجاه العام، أو المكوّن الأساسي الذي يحقق المقاصد، اكثر منه تفاصيل آنية، تخضع لمحدودية الزمان والمكان. اما على المستوى الفقهي، فيتفق جميع المسلمين على اعتبار القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع في الاسلام. وينبع ذلك من حقيقة ان القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، يتضمن حقائق كلية، وهو ينطلق من التعاطي مع حقيقة وحدة النوع الانساني وسواسية الناس في الحلقة. وتكتسب الشعوب اختلافها عن بعضها عبر التربية المعرفية والعادات والتقاليد. أما على مستوى المذاهب الفقهية، فالأصح التعاطي معها على انها مدارس فكرية، جاءت منسجمة مع الاتجاه الحضاري العام للمجتمع الاسلامي، مثلها في ذلك مثل كل المدارس الفكرية والفلسفية التي نشأت في تيارات الحضارات الكبرى في التاريخ. فالتاريخ الاسلامي يقدم دليلاً واضحاً على ان الخلاف السياسي حول السلطة ومعها هو اساس نشوء الفرق في الاسلام. ان التجربة السياسية الفقيرة لشبه الجزيرة العربية لم تستطع تقديم أجوبة شافية حول هذه المسألة. فالحياة السياسية لشبه الجزيرة العربية، عند ظهور الاسلام، كانت تتمحور حول محاولة قريش - الناهضة نهضة مادية تجارية ونهضة دينية وثنية - أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية. اما بعد قيام المجتمع الاسلامي في مكة والمدينة، ومن بعدها في سائر ارجاء الامبراطورية العربية - الاسلامية، ومع تحول العصبيات من عصبيات قائمة على الدم الى عصبيات قائمة على الدم والفكرة الدين. يضاف الى ذلك ان النبي توفي بعد الفتح بقليل، ولم يضع قاعدة للخلافة، ولا دستوراً لهذه الأمة، فإنه لم يعد بمقدور هذه التجربة الفقيرة تقديم الاجوبة المناسبة. لذلك فقد جاءت الاجوبة التي قدمها معظم الفرق الاسلامية ذات طابع فقهي، وأحياناً ذات طابع عقائدي الإيمان والكفر. ولا تختلف نشأة الشيعة في الاسلام عن نشأة اي فرقة أخرى، محور الخلاف كان سياسياً الإمامة - الخلافة، وسرعان ما اكتسب طابعاً فقهياً مع الأئمة، ثم الى طابع عقائدي مع الأتباع. وأخيراً، نشير الى ان نظرية الإجماع أدت حتماً الى اختزال التنظيم الاجتماعي والسياسي للدولة العربية - الاسلامية حتى اليوم، وان اختلفت المقاربات. كذلك لا بد من الاعتراف بالتنوع واعتماد التعددية. * استاذ في الجامعة اللبنانية.